سعيد الحاج - TRT عربي 

تُشكل بعض المحطات والأحداث فرصة مناسبة لتقييم بعض المسارات في سياسات الدول، داخلياً وخارجياً، وفي مقدمة ذلك نهاية كل عام، إذ يمكن معها وبشكل دوري عمل رصد وحالة تقييم لعام كامل وما تخلله من أحداث ومسارات وقرارات.

ومن هذه الزاوية، يشكل عام 2023 فرصة مهمة لتقييم السياسة الخارجية التركية خلاله، لا سيما أنه عام استثنائي وذو رمزية بالنسبة إلى تركيا لمناسبته مئوية تأسيس الجمهورية.

الملحوظة الأبرز بخصوص عام 2023 أن ملفات السياسة الداخلية كانت طاغية إلى حد كبير على المشهد السياسي، إذ كانت أولاً وقبل كل شيء سنة انتخابات رئاسية وبرلمانية مهمة، بل وُصِفت بالحاسمة والمصيرية، لا سيما أنها شهدت تحالفاً غير مسبوق لأحزاب المعارضة وأجريت في ظل أوضاع اقتصادية غير مستقرة.

ولذلك، فقد كانت الأشهر الستة الأولى من العام تحديداً تدور حول فكرة الانتخابات وتحالفاتها ونتائجها وانعكاساتها، ومن البدهي أن الانتخابات دفعت إلى التركيز أكثر على الملف الاقتصادي.

كما أن السنة كانت قد بدأت بزلزال مدمر أودى بحياة عشرات الآلاف، وسيطر على الاهتمام والسياسة في البلاد لشهور طويلة وسَمّته الحكومة “كارثة القرن” لشدة وكثرة آثاره السلبية والمدمرة في كل الاتجاهات. وأخيراً، انتهت السنة والانتخابات المحلية المقبلة، نهاية مارس/آذار القادم، تسيطر على النقاش الداخلي في البلاد.

ورغم ذلك، أي رغم عدد ملفات السياسة الداخلية وحضورها القوي، فإن ذلك لم يُغيّب تماماً السياسة الخارجية وملفاتها العديدة التي تهتم بها أنقرة، ذلك أن الأخيرة منخرطة بأشكال متعددة وتلعب أدواراً محورية في قضايا ونزاعات عدة.

في المقام الأول تجدر الإشارة إلى أن وزير الخارجية تغير بعد الانتخابات، إلا أنه لم يطرأ على السياسة الخارجية تغيرات جوهرية. ومن مؤشرات ذلك أن الوزير الجديد الذي خلف الوزير المخضرم مولود جاوش أوغلو، أي هاكان فيدان، كان رئيساً لجهاز الاستخبارات لمدة 13 عاماً متواصلة، وكان خلالها جزءاً رئيساً من دوائر صنع قرار السياسة الخارجية وتنفيذه، فضلاً عن أنه أدار بنفسه بعض الملفات بشكل مباشر مثل الملف الليبي.

وعليه، استمر انخراط تركيا في كل الملفات والقضايا والنزاعات المتعددة في المنطقة، من سوريا والعراق إلى قبرص وليبيا، ومن شرق المتوسط إلى جنوب القوقاز، ومن الحرب الروسية- الأوكرانية إلى العدوان الإسرائيلي على غزة، ومن القرن الإفريقي إلى الأقليات المسلمة في العالم. وقد قاربت أنقرة كل ذلك ضمن علاقات متشعبة ومركبة مع مختلف الأطراف، مثل دول المنطقة والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وغيرها.

ومن المسارات العامة التي صبغت السياسة الخارجية التركية في 2023 حالة الانفتاح والتنسيق والتعاون مع دول المنطقة المختلفة وخصوصاً الدول العربية الفاعلة، في استمرار لمسار التهدئة الذي بدأ نهايات 2021 ووصل ذروته في يوليو/تموز 2023 بتبادل السفراء بين أنقرة والقاهرة، بعد محطات بارزة مع كل من الإمارات والسعودية والبحرين وإسرائيل، وانتقال مقاربة الملف السوري من الزاوية العسكرية-الأمنية فقط إلى المسار السياسي.

وعلى وجه التخصيص، فقد حضرت ثلاثة ملفات بشكل أساسي في السياسة الخارجية لتركيا في 2023: الحرب الروسية-الأوكرانية، وملف انضمام السويد إلى الناتو، والعدوان الإسرائيلي على غزة.

لقد كانت الحرب الروسية-الأوكرانية أحد أهم ملفات السياسة الخارجية التركية في 2022، واستمرت كذلك في 2023. وقد كان لتركيا، التي التزمت الحياد الإيجابي، دور بارز في الوساطة بين الجانبين وحققت اختراقات مهمة مثل الجمع بين وزيرَي خارجية البلدين واتفاقية تصدير الحبوب واتفاق تبادل الأسرى.

لم يتغير موقف أنقرة في 2023، فقد استمرت بالدعوة إلى وقف إطلاق النار وإبرام اتفاق ينهي الحرب بين الجانبين، إذ “لا منتصر في الحرب، ولا خاسر من سلام عادل” كما يردد الرئيس أردوغان، وما زالت أنقرة تسعى للعب دور الوساطة السياسية في هذا الإطار.

في مارس/آذار، انتهت مدة اتفاق تصدير الحبوب، فأمكن تمديده لستين يوماً بوساطة تركية ورعاية أممية، ثم أعلنت روسيا في يوليو/تموز الفائت عدم موافقتها على تجديد الاتفاق لعدم تطبيقه بشكل كامل وعدم استفادتها منه كما ينبغي، فعملت أنقرة مع الأمم المتحدة لتقديم مقترحات في محاولة لإقناعها بالعودة إلى الاتفاق، لكن لا يبدو أن موسكو مقتنعة حتى اللحظة.

ورغم ذلك، ما زالت عودة روسيا إلى الاتفاق محتملة، إذ صرحت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا قبل أيام بأن “فرص إحياء مبادرة البحر الأسود ما زالت قائمة” ويمكن العودة إليها “بمجرد رفع العقوبات المفروضة على الشركات الروسية”.

في المقابل، عملت أنقرة والأمم المتحدة مع الجانبين الروسي والأوكراني على تجنيب البحر الأسود أي تصعيد عسكري أو مواجهة مباشرة أو غير مباشرة، بعد تفتيش الجانب الروسي إحدى السفن المتجهة إلى المواني الأوكرانية بعد الخروج من الاتفاق، وقد نجحت هذه المساعي بإعادة الهدوء إلى حوض البحر الأسود بالغ الأهمية من منظور الأمن القومي التركي.

وقد بقي ملف انضمام السويد إلى الناتو أحد أهم ملفات السياسة الخارجية التركية في 2023، إذ كانت الأخيرة قدمت مع فنلندا طلباً للانضمام إلى الحلف تخلياً عن حالة الحياد التقليدية لديهما، وبقيت تركيا مع هنغاريا الوحيدتين الرافضتين لعضويتهما داخل الحلف.

كان عدم بذل الدولتين جهد كافي لمنع الأنشطة الداعمة لتنظيم PKK الإرهابي على أراضيهما، وأحياناً دعم الحكومتين لبعض هذه الأنشطة، المسوغ الرئيسي للرفض التركي، وبالتالي كان ثمة مطالب محددة لأنقرة من الدولتين للموافقة. وكانت فنلندا الأسرع تجاوباً فنجحت تركيا في فرض فصل المسارين والموافقة على عضوية فنلندا في الناتو في مارس/آذار الفائت.

دفع ذلك السويد إلى التجاوب مع المطالب التركية، وتحديداً تغيير بعض القوانين المتعلقة بمكافحة الإرهاب والتعاون مع أنقرة في ملف تسليم المتهمين. نتج عن ذلك موافقة أردوغان على إحالة الملف إلى مجلس الأمة التركي الكبير (البرلمان) في يوليو/تموز الفائت على هامش قمة الناتو في فلنيوس، وقد أدرج البرلمان الملف على جدول أعماله في أكتوبر/تشرين الأول الفائت.

وقبل أيام فقط، وافقت لجنة السياسة الخارجية في البرلمان على الملف وحولته إلى رئاسة البرلمان، وسيُعرض في وقت لاحق على كامل أعضاء البرلمان لمناقشته وإقراره، الأمر الذي أصبح متوقعاً إلى حد كبير بعد موافقة أحزاب العدالة والتنمية والحركة القومية والشعب الجمهوري (أكبر أحزاب المعارضة) في لجنة السياسة الخارجية.

كما شهدت الشهور الثلاثة الأخيرة العدوان الإسرائيلي الدموي والوحشي على قطاع غزة، وكان لتركيا حراك سياسي وإغاثي نشط فيه. عرضت أنقرة الوساطة في الأيام الأولى للعدوان، لكنها وعلى وقع المجازر في القطاع صدّرت موقفاً واضحاً إلى جانب الفلسطينيين واصفة إسرائيل بـ”دولة إرهاب”، وما تقترفه في غزة بجرائم الحرب وأحياناً بالإبادة.

وإضافة إلى تهديدها المستمر بمحاكمة نتنياهو دولياً على جرائم الحرب في غزة، حشدت أنقرة العديد من القوافل الإغاثية على الحدود المصرية-الفلسطينية بانتظار السماح بدخولها غزة وإنشاء مستشفيات ميدانية داخلها، إضافة إلى استضافتها العشرات من الجرحى والمرضى في المستشفيات التركية.

وعليه، اختصاراً، رغم ضغط الملفات الداخلية في 2023، وخصوصاً الزلزال والانتخابات، فإن السياسة الخارجية التركية لم تفقد زخمها وخصوصاً في الملفات الرئيسية التي كان لأنقرة دور بارز فيها.

لذلك، المتوقع في عام 2024 وتحديداً بعد الانتخابات المحلية، أن تستفيد السياسة الخارجية من استقرار المشهد الداخلي في البلاد لتكون أكثر انخراطاً وتفرغاً وتفاعلاً مع مختلف الملفات الخارجية، وخصوصاً التي كانت أكثر حضوراً في 2023.

 

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس