ترك برس

تناول تقرير تحليلي للخبير والمحلل السياسي التركي مراد أصلان، أنشطة التجسس التي تقوم بها الاستخبارات الإسرائيلية داخل الأراضي التركية.

أصلان، وهو أستاذ مساعد في جامعة حسن كاليونجو وباحث في معهد SETA التركي للدراسات، قال إن تركيا تمتلك سياسة خارجية فاعلة ومؤثرة، تحديداً تجاه المناطق المجاورة لها، مثل القوقاز والبلقان والشرق الأوسط التي تعاني من اضطرابات أمنية، دفعت بجزء من سكانها إلى اللجوء، واستقبلت تركيا جزءاً منهم.

وأضاف، في تقريره بموقع قناة "TRT عربي" الرسمية، أنه "في ظل سياستها الخارجية الفاعلة تجاه هذه المناطق واستقبالها لجزء من اللاجئين بدأت أجهزة أمنية مختلفة تركز في عملها على تركيا".

ولفت إلى أن أنشطة الاستخبارات التي تُجريها الدول الأخرى في تركيا لم تكن أمراً غير مألوف بالنسبة إلى الاستخبارات التركية، فمنذ عهد الحرب الباردة وتركيا محط تركيز الأجهزة الاستخبارية الأجنبية.

ويرى أصلان أن أجهزة أمنية عدّة تسعى للعمل الأمني والاستخباري في تركيا، فبعد اندلاع الحرب الأوكرانية-الروسية أصبح المواطنون الأوكرانيون وسياسة تركيا تجاه الحرب مسألة ذات أولوية للاستخبارات الروسية.

وأشار محاولة عناصر الاستخبارات الروسية في المدن التركية وتحديداً في إسطنبول وأنطاليا تعيين مواقع الأوكرانيين، وخصوصاً أولئك الذين يعملون في الإمداد اللوجستي، إذ كانت هذه الجهود في مصبّ اهتمام الاستخبارات الروسية.

وكما يجب عدم إغفال نشاطات الاستخبارات الأمريكية والأوروبية في تركيا، فقد كانت الثورة السورية 2011 تطوراً هاماً في سياق رسم خريطة الشرق الأوسط من وجهة نظر الاستخبارات الأمريكية والأوروبية.

وتابع التقرير: مع تورط روسيا وإيران في الأزمة السورية، زادت هذه الدول جهودها الاستخبارية في تركيا، إذ إن لهذه الدول مصالح مختلفة عن تركيا، فقد أدرجت تركيا ضمن أولوياتها الاستخبارية.

وبُنيت مبانٍ ضخمة للقنصليات التي لم يكن يخدم فيها إلا 5-10 أشخاص، وجرى تعيين العشرات من "الموظفين القنصليين" في أنقرة أو إسطنبول، في حين تزايدت أعداد الهياكل غير الحكومية والمنظمات الأهلية التي تحاول الوصول إلى سوريا عبر تركيا تحت غطاء الاستجابة للاحتياجات الإنسانية في سوريا تزايداً مهولاً، وكذلك "الجمعيات" التي أسسها السوريون والتي حطمت الأرقام القياسية.

وساد اعتقاد بأن القنصليات المذكورة والهياكل غير الحكومية والمنظمات الأهلية والجمعيات المحلية يعمل جزء منها كوحدات استخبارية.

وحاولت الأجهزة الأمنية الإيرانية ملاحقة معارضي النظام الإيراني الذين فرّوا إلى تركيا، كما عملت على التأثير في المجتمع التركي لخلق حالة من التعاطف مع النظام الإيراني، بالإضافة إلى مساعيها لتحويل تركيا إلى ساحة وميدان لصراعها مع إسرائيل والولايات المتحدة.

تركيا في دائرة الاستهداف

عندما نضع بعين الاعتبار موقع تركيا الذي يُعتبر "أكبر من قوة إقليمية وأصغر من قوة عالمية"، فإن الأحداث التي تجري في محيط تركيا القريب تُظهِر أن أجهزة استخبارات القوى العالمية ترى في تركيا هدفاً أيضاً.

ومنذ عام 2012، ما كان من الممكن أن تحدث أحداث حديقة جيزي، ومحاولات الانقلاب القضائي، ومحاولات التمرد في مراكز المدن من قِبل تنظيم PKK الإرهابي، وأخيراً أحداث 15 يوليو/تموز، من دون دعم أجهزة استخبارات الدول الأخرى.

ويجري تقديم الأسلحة والذخيرة والدعم المالي حالياً لتنظيم PKK الإرهابي بشكل علني من بعض الدول وبشكل سري من دول أخرى، وكذلك من يدرّب ويوجّه الإرهابيين من التنظيم ذاته هي بطبيعة الحال أجهزة الاستخبارات للدول الأخرى، وإلا فيبدو من غير الممكن أن يحافظ تنظيم إرهابي على وجوده لأكثر من 40 عاماً.

ومثال آخر هو منظمة كولن الإرهابية. إنّ تحقيق هيكلة دائمة لهذه المنظمة في 142 دولة عبر العلاقات التعليمية والمساعدات والأعمال إنما يمكن بدعم من أجهزة أمنية، فهذه المنظمة التي تمتد وتتوغل بشبكة عنكبوتية عبر مؤسسات القضاء والسياسة والإدارة والقوات المسلحة للدول التي تنتشر فيها، تحاول أن تصبح قوة أساسية من وراء الستار عبر إقامة حكومات موازية في هذه الدول.

ولا يمكن نجاح مثل هذه الأنشطة من دون دعم وسماح الدول الكبرى بذلك. بعبارة أخرى، إنّ منظمة مثل منظمة كولن الإرهابية لا يمكن لها أن تتغلغل وتحقق ديمومة في دولة ما إلا برضا ودعم من أجهزة أمنية.

في ضوء الحقائق أعلاه بدأت الاستخبارات التركية بزيادة قدرتها وكفاءتها وتحديداً مع بداية الألفية الجديدة، مع ازدياد تعارض المصالح التركية مع الأجندة الغربية، فبدأ جهاز الاستخبارات التركية يتحرك وفقاً لأجندة وطنية مرتبطة بالمصالح التركية.

ولقد أدّت الأزمات التي حدثت في محيط تركيا خلال السنوات الأخيرة أيضاً إلى زيادة وتيرة أنشطة الجهاز والتركيز على مواجهة الجهود الاستخبارية التي تديرها دول أخرى عبر تركيا.

في مواجهة الموساد

جاء الإعلان الذي أصدره جهاز الشاباك الإسرائيلي حول إمكانية استهداف عناصر حركة حماس في تركيا ولبنان والأردن بمثابة نقطة تحول جديدة في تعامل الاستخبارات التركية مع الأنشطة الأمنية الإسرائيلية، بعد أن حذر الرئيس التركي أردوغان إسرائيل بشكل واضح من عواقب أي عمليات على الأراضي التركية.

وفي السنوات الأخيرة زاد جهاز الاستخبارات التركية تدابيره الوقائية في مواجهة أنشطة الموساد الإسرائيلي، وازدادت بعد الحرب في قطاع غزة، إذ أصبح وجود حركة حماس في تركيا الأولوية الرئيسية بالنسبة إلى إسرائيل.

ورغم أن عمليات جهاز الاستخبارات التركي (MİT) غالباً ما تظل بعيدة عن الأضواء الإعلامية، فإنه لوحظ في السنوات الأخيرة أن عمليات الاستخبارات الموجهة ضد الأجهزة الاستخبارية الإيرانية والإسرائيلية تُعرض بشكل صريح في الصحافة.

قد يرجع السبب وراء هذا التغيير في الخيارات إلى تجاوز إيران وإسرائيل الحدّ المتسامح به في أنشطتهم الاستخبارية داخل تركيا، فالتحذيرات التي تُقدَّم عبر القنوات الدبلوماسية أو للعناصر المعتمدة في الأجهزة الاستخبارية كثيراً ما لا تُؤخذ على محمل الجد من قِبل هذه الدول.

وجاءت أول عملية استخبارية لجهاز الاستخبارات التركي حين جرى كشف واعتقال 15 عضواً من الموساد مُنظَّمين على شكل خلايا، بهدف ضم الطلاب العرب في تركيا إلى صفوفهم.

وفي العملية الاستخبارية الثانية للاستخبارات التركية جرى تفكيك خلية موساد مكونة من سبعة أشخاص كانت تستعدّ لشنّ هجمات ضد 14 فلسطينياً. أما في العملية الثالثة فقد جرى اعتقال 13 عنصراً من الموساد كانوا يبحثون ويستقصون حول مواطنين وشركات إيرانية.

ويُلاحَظ أن العملاء "المُنتدَبين" من قِبل الموساد في تركيا هم مواطنون أتراك أو من دول ثالثة، كما أنه من اللافت وجود أشخاص يعملون في شركات أمنية أو من أولئك الذين يُقدِّمون أنفسهم باعتبارهم محققين خاصين.

وأسهم جهاز الاستخبارات التركية في إنقاذ المهندس الفلسطيني عمر البلبيسي الذي تمكّن من اختراق برمجيات منظومة القبة الحديدية وحاول الموساد اختطافه في ماليزيا، إذ أبلغت الاستخبارات التركية السلطات الماليزية بموقعه للحيلولة دون اختطافه.

من المراقبة إلى العمليات

وبالنظر إلى هذه المرحلة يُلاحَظ أن جهاز الاستخبارات التركي قد انتقل من مرحلة المراقبة إلى مرحلة تنفيذ العمليات، ومن المهم الإشارة إلى كيفية الإعلان عن آخر عملية استخبارية أجرتها الاستخبارات التركية في الثاني من يناير/كانون الثاني 2024.

في البيان الصادر عن الاستخبارات التركية أُشير إلى أن عمليات الجهاز ضد الموساد "بدأت في عام 2021، وجرى خلال عامَي 2021 و2022 وضع 97 شخصاً تحت مجهر المراقبة، 39 منهم أتراك و58 أجانب، وجرى اعتقال 51 منهم من قِبل السلطات القضائية".

وبالإضافة إلى ذلك، يُشير الإعلان إلى أنه في عام 2023 جرى اعتقال 17 شخصاً كانوا يعملون تحت اسم شركة تحريات خاصة، وليس من المألوف أن يُعلن عن اعتقالات بهذا العدد الكبير في أنشطة التجسس التي تقوم بها دولة داخل أراضي دولة أخرى. وفي الواقع إنّ تحديد هويات أو اعتقال نحو 170 جاسوساً أو مصدراً خلال عملية استمرت عامين يُعتبر قصة نجاح للاستخبارات التركية.

النقطة الثانية التي تبرز في بيان جهاز الاستخبارات التركية هي الإعلان الواضح عن الأساليب التي يتبعها الموساد في تجنيد العناصر وطرق العمل في داخل تركيا.

في الواقع إنّ سبب نشر التقرير بهذا الإسهاب هو الحاجة إلى الكشف عن هذه المعلومات، وذلك بسبب زيادة نشاط الموساد الاستخباري والعمليات المرتكزة على الاستخبارات. وبمعنى آخر، الموساد يستخدم المواطنين الأتراك أو مواطني دول ثالثة بما يتوافق مع المصالح الإسرائيلية على المستوى التكتيكي، لذلك يتعين على الأفراد أن يكونوا على دراية بمحاولات "التأثير والسيطرة" التي قد يتعرضون لها في حال واجهوا عنصراً من الموساد، وفقاً لما جاء في الإعلان.

من الواضح أن هذا التنافس الاستخباري سيزداد في الأيام القادمة، ومع ذلك ما زالت الاستخبارات التركية تتبع أسلوباً "دفاعياً"، ولم تبدأ بعدُ عملية "معلوماتية" كبيرة من شأنها أن تسبب ضرراً كبيراً لإسرائيل.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!