أحمد البرعي - خاص ترك برس

يجبر المرؤ أو يختار أحيانا أن يعيش في بيئة أوبلد غير التي ولد فيها واستنشق هواءها وعانق أزهارها وأشجارها وصافح وجهه كل أنحائها، يسافر المرؤ طلباً للعلم أو التجارة أو بحثا عن معيشة ومسكن أفضل أو "مع الأسف" هرباً من الظلم والقهر والذل الذي لا يقدر أن يتحمله في بلده ووطنه. وهذا هو حال معظم من تصادفهم وأنت تمشي في شوارع إسطنبول، تلك المدينة الساحرة بمآذنها وبوسفورها وخليجها، إذ تسمع كل اللهجات العربية والأجنبية، ما دفع أحد الأصدقاء أن يتندر بالقول "يبدو أن الأتراك كُثُر في إسطنبول" دلالة على كثرة الأجانب والعرب فيها.

من نافلة القول إن المعيشة في بلد آخر هي تجربة صادمة في معظم أحيانها لمن غفل عن حقيقتها وجهل كينونتها. تعارف علماء الإجتماع على إن هذه الصدمة هي فترة طبيعية لكل من سافر للعيش في ثقافة أخرى غير الثقافة التي يعرفها، وقد عرف عالم الاجتماع وييفر (1993) الصدمة الثقافية بأنها "المشقة والضيق الجسدي والوجداني الذي يعيشه المرؤ عند انتقاله للعيش في ثقافة تختلف عن ثقافته الأصيلة" فالمغترب الذي يعش في بلد آخر حتماً سيتعرض لهذه الصدمة الثقافية إلا باستثناءات نادرة لمن عرف وأدرك طبيعتها.

ولكن السؤال الجوهري هل ينطبق ذلك على العربي الذي لجأ للعيش أو الدراسة في تركيا؟! هل يلمس العربي اختلافا جوهريا في الثقافة التركية تؤدي به إلى الشعور بهذه المشقة والضيق الجسدي والوجداني؟

لابد وأن يخوض المغترب عربياً أو غربياً غمار مراحل الصدمة الأربع والتي قدم لها كولز (1996)، وهو المدير السابق لوكالة الإعلام الأمريكية ومركز ميريديان الدولي في واشنطن، إذ يقول إن المهاجر أو المغترب لابد وأن يمر بأربع فترات حتمية أولها "شهر العسل" ومثله على ذلك السائح الذي يزور بلداً للتنزه والاستمتاع بالجميل من آثارها ومناظرها الخلابة. وغالباً ما تأخذه هذه المشاهد وتأسر ناظريه ليعجب بكل ما يراه، بالمناظر والروائح ومذاق الأطعمة المختلفة وجمال المباني والشوارع، ورغم أنه قد يواجه بعض المشاكل والصعوبات إلا أنه يتقبلها كجزء من التجديد والتجربة الاستكشافية. فالعربي القادم إلى إسطنبول لابد وأن يرغب في رؤية "قصر مهند ونور" وزيارة جزيرة الأميرات والسلطان أحمد وميدان التقسيم وغيره من الأماكن التي يسوقها له آخرون سبقوه في المدينة، وعند زيارته لهذه الأماكن يرى كل شيء جميل وخلاب ومتقن الإخراج ليس كنظيره في موطنه، وهذا الشعور بالنشوة وجمال الطبيعة يستمر لبضع أيام أو أسابيع إلا أن خيبة الأمل حتمية، لا محالة قادمة...

وهي المرحلة الثانية، "مرحلة الرفض والإنكار" وتبدأ ببعض المشاكل الطبيعية نتيجة اختلاف المذاقات والأهواء والطباع وهنا يبدأ الشعور بالنشوة والحماس يتحول تدريجيا إلى سخط وخيبة أمل وحنق وغضب وكآبة، ولا يرى الإنسان أمام ناظريه إلا تلك النقاط السوداء التي تسبب له المشاكل والصعاب ويبدأ يشعر بالحنين إلى وطنه وتبدأ المقارنات بين ما يراه وما تركه واسترجاع ذكرياته مع أصحابه والمطعم والقهوة والسهرات والحفلات وكل اللحظات الجميلة التي تركها وراءه، رغم هروبه منها كما ادعى عندما خرج من بلده مسافراً والبعض مضطرا لا مختاراً. هذه الصدمة نسبية تعتمد على التصورات المسبقة وطبيعة المنطقة التي ينزل فيها. فجأة يدرك أن إسطنبول يغلب عليها السمت الغربي متمثلاً بارتداء الفتيات للتنانير القصيرة والملابس الضيقة، وتكون الصدمة أكبر عند حلول شهر رمضان إذ لا يشعر في نهار الشهر الفضيل بأن الناس صيام فالمطاعم مشرعة الأبواب والمحلات والأسواق والمقاهي تعج بالزوار والرواد ودخان السجائر يزاحم عوادم الحافلات في الشوارع ويكأن الناس لا يصومون ولا يدركون أنه شهر الصيام وتبدأ إسطوانة "أين أيام؟!..." قد يصل الأمر بالبعض لكره البلد والحقد عليها ونكران جميلها والقدح بأهلها قد يكون الدافع وراء هذا الشعور وهو غالب الظن عندي، الشعور بالدونية عندنا نحن العرب فلو كنا في بلادنا نشعر بالانتماء ونحظى بالاحترام ولنا دول ترفع من شأننا ما شعرنا بهذا الشعور من النقص فالجميع منا يريد لبلده أن يكون لها اليد العليا وتعطي أكثر مما تأخذ وهو ما سيكون بإذن الله قريباً.

ولحسن الحظ...

فإن الغالبية من الناس ينتقلون إلى المرحلة الثالثة تدريجيا وهي مرحلة "التأقلم والتوافق"، وفيها تغلب النظرة الإيجابية المتفائلة النظرة السلبية المتشائمة، فيبدأ بتعلم اللغة الجديدة وفهم طبيعة وثقافة البلد والبحث عن نقاط الالتقاء والتشابه لا التنافر والاختلاف ويصبح المستغرب مألوفاً والمستهجن طبيعاً ويبدأ في فتح آفاقه وشق طريقه وحل مشاكله غير مكترث بالارتباك والجزع الذي مر به في بداية تجربته. وهنا تطغى على المشهد الحقيقة الدامغة أننا ثقافة واحدة وأن إسطنبول كالقدس والقاهرة ودمشق وبغداد، حتى صفحات وجوه الناس كأنك تعرفها، والشيوخ في المساجد كأنهم أولئك الذي يجلسون على جدران المساجد في قريتك أو بلدتك الصغيرة، والأصدقاء الذين تعرفت عليهم يشبهون أولئك الذين تركتهم خلفك حتى في طريقة المزاح والتندر.

وأما المرحلة الرابعة والأخيرة فيبدأ المغترب بـ"التكيف والاستقرار" فقد استقر واستعمر وفهم طبيعة البلد وهو ما يدفع بالضرورة إلى شحذ ثقته بنفسه وتوجيهه لها، فقد انصهر في الثقافة الجديدة وتقبل اختلافاتها وعلم أن لها وعليها، ولا شيء يبلغ حد حلمه والكمال الذي في خياله.

وفي النهاية أقول لكي تعيش حياة سعيدة مع ثقافة جديدة،

انغمس في الثقافة الجديدة وتعلم لغة البلد وصارع الاختلافات،

كن منفتحاً، تعامل مع تصوراتك المسبقة على أنها طبيعية وتحتاج إلى إعادة تكوين.

لا تعزل نفسك، كون صداقات جديدة وشارك أصدقائك الجدد نشاطاتهم واندمج معهم.

عن الكاتب

د.أحمد البرعي

باحث ومحاضر في قسم الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة أيدن


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس