د. علي محمد الصلابي - خاص ترك برس

بعد أن غزا المغول بلاد الشام ودخلوا دمشق، أصبحوا على أبواب مصر، وكان من الواضح أنها وجهتهم المقبلة، وهو بالفعل ما عبر عنه كتاب القائد المغولي " كتبغا " إلى السلطان قطر، والذي هدد فيه وتوعد وطالب السلطان بالخضوع للمغول وتأدية ما يوجبه ذلك. وقد مهد ذلك لحدوث معركة فاصلة من أهم معارك التاريخ الإسلامي، وواحدة من أعظم انتصارات المسلمين التي غيرت مجرى التاريخ وتمكنت من حماية ما تبقى من العالم الإسلامي حينها، وهي معركة عين جالوت الخالدة.

الاستعداد للمعركة:

اجتمع قطز مع مجلسه العسكري لبحث أفضل طريقة لحرب التتار، وعبَّر عن عزمه الخروج بجيش مصر لملاقاة التتار في فلسطين بدلاً من أن ينتظرهم في مصر، لأن مصر مملكته، فإن أمن مصر يبدأ من حدودها الشرقية وليس من داخل البلد نفسه، ومن الأفضل عسكرياً أن ينقل سيف الدين قطز المعركة إلى ميدان خصمه لأن هذا سيؤثر نفسياً على نفوس التتار، ومن الأفضل عسكرياً  كذلك أن يمتلك المسلمين عنصرَ المفاجأة، فيختاروا هم ميعاد المعركة ومكانها، واستمر إعداد الجيش وتجهيزه وجمع المتطوعين وتدريب المجاهدين مدة خمسة أشهر. (1)

أحداث المعركة:

في الخامس والعشرين من رمضان سنة 658هـ، حين التقى الجمعان وذلك بعد طلوع الشمس، وكان الجيش المغولي بقيادة "كتبغا"، وكان قطز قد أخفى قواته الرئيسية في التلال القريبة ولم يعرض للعدو إلا المقدمة التي قادها بيبرس، وما لبث "كتبغا" أن وقع في الفخ، فأسرع بيبرس في تقهقره إلى التلال بعد أن اشتدت مطاردة "كتبغا" له، فلم يلبث الجيش المغولي بأسره أن جرى تطويقه فجأة وجرت بين الطرفين معركة طاحنة، واضطربت قوات المماليك بعض الوقت  وانكسرت ميسرة المسلمين في بداية الأمر، فحمل الملك المظفر بنفسه في طائفة من عساكره وأردف الميسرة حتى جبر ضعفها، ثم اقتحم القتال وأبلى في ذلك اليوم بلاء حسناً، وهو يشجع أصحابه ويحسن لهم الموت في سبيل الله ويكر بهم كرة بعد كرة، وألقى خوذته عن رأسه إلى الأرض وصرخ بأعلى صوته ((وإسلاماه))، ولم تنقضي سوى ساعات حتى بدأ تفوق المسلمين في الميدان، وسحقت القوات المغولية، ومر العسكر في إثر التتار إلى قرب بيسان، فرجع التتار، والتقوا بالمسلمين لقاءً ثانياً أعظم من الأول، فهزمهم الله وقتل أكابرهم، وكان قد تزلزل المسلمون زلزالاً شديداً، فصرخ السلطان صرخة عظيمة، وهو يقول: ((وإسلاماه))، فلما انكسر التتار الكسرة الثانية نزل السلطان على فرسه، وصلى ركعتين لله تعالى ثم ركب، فأقبل العسكر وقد امتلأت أيديهم بالغنائم، واستمر ركن الدين بيبرس في مطاردة فلول المغول حتى أفامية فوجدهم قد تجمعوا بها ووحدوا صفوفهم للمرة الثالثة استعداداً لمواجهتهم، فهاجمهم وكسرهم كسرة شنيعة، وبدأ جنود التتار في التساقط، وكانت نتيجة المعركة أن أُبيد جيش التتار بأكمله، ولم يبقَ على قيد الحياة من الجيش أحد. (2)

نتائج وآثار معركة عين جالوت:

كانت هذه المعركة من أبرز المعارك الفاصلة في التاريخ الإسلامي، فهي الأولى التي هزم بها التتار وبهذه الهزيمة الفادحة تم ضم وتوحيد العالم الإسلامي تحت حكم المماليك لأكثر من 270 عامًا، فقد كان لمعركة عين جالوت أثراً عظيماً في تغيير موازين القوة بين القوى العظمى المتصارعة في منطقة الشام،  فقد تسببت خسارة التتار في المعركة في تحجيم قوتهم، فلم يستطع القائد التتاري هولاكو الذي كان مستقراً في تبريز التفكير بإعادة احتلال الشام مرةً أخرى، وكان أقصى ما فعله رداً على هزيمة قائده "كتبغا" هو إرسال حملة انتقامية أغارت على حلب. (3)

 كما ساهم هذا الانتصار في معركة عين جالوت في نشر الإسلام، فقد بعث هذا الانتصار روحاً جديدة في المسلمين، وكانت بداية هذا الانتشار مع تأثر التتار بالإسلام من خلال أحد زعماء القبيلة الذهبية التي تعد أكبر قبائل التتار، وهو بركة خان ابن عم هولاكو قائد التتار في الغرب، وبإسلامه دخلت أعداد كبيرة من القبيلة الذهبية في دين الإسلام، وكان لهذا الانتصار دورٌ كبير في تحجيم خطر المغول، وإضعاف بقايا الوجود الصليبي على ساحل بلاد الشام، فالذي لا شك فيه أن الصليبيين أصيبوا بخيبة أمل كبيرة بعد ذلك النصر العظيم والذي حققه المسلمون ضد المغول في هذه المعركة. (4)

دروس وعبر من معركة عين جالوت:

1. دور القيادة الحكيمة: كان السلطان سيف الدين قطز رجلاً صالحاً، وشجاعاً وبطلاً، كثير الخير، ممالئاً للإسلام وأهله وهم يحبونه، وكان مقداماً حازماً حسن التدبير، وكانت الأمة في أشد الحاجة لقيادة حكيمة، فلقد كان قطز سياسياً استراتيجياً إذ استطاع في مدة بسيطة أن يسوس بلاد الشام، وأن يحسن إلى الشعب، ويقدم له الأمن والسلامة والاستقرار، وأن يهيء له سبل العيش الكريم، وأن ينظم الأمور الإدارية، ويعين الحكام الإداريين للمدن التي استردها من التتار. (5)

2. ضرورة إحياء روح الجهاد: كانت الغاية من التوجيه المعنوي في الجيش المملوكي التذكير بالجهاد والحث عليه والترغيب وشحن النفوس بمقارعة ومحاربة العدو، وصون الديار والحرمة الإسلامية، فالقوة المعنوية يركز عليها في كل الجيوش، ولهذا فإن القيادة تسعى دائماً إلى زيادة هذه القوة ورفعها.

3. الإعداد وسنة الأخذ بالأسباب: انتصر المسلمون في معركة عين جالوت، لأنهم عرفوا كيف يتعاملوا مع سنة الأخذ بالأسباب، وكان سلاطين المماليك أصحاب فقه عميق بسنة الأخذ بالأسباب، ويظهر ذلك من خلال حرصهم على العمل والإعداد العملي والواقعي، التزاماً منهم بأمر الله تعالى في قوله:} وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ (الأنفال: 60)، لقد فهم قادة المماليك أن أمر التمكين لهذا الدين يحتاج إلى جميع أنواع القوى على اختلافها وتنوعها، ولقد قاموا بشرح هذه الآية عملياً من خلال التدريب والتعليم والتخطيط والتنظيم. وقد اشتهر قادة المماليك بالقدرة على التخطيط والتنفيذ، ومعرفة قوانين الحرب والمبادئ التي تلعب دوراً هاماً لبلوغ النصر، وإذا أمعنا النظر في معركة عين جالوت بصورة خاصة والمعارك التي تلت بصورة عامة، أدركنا تماماً أن قادة الجيش المملوكي كانوا يطبقون هذه المبادئ والأساليب إلى أبعد الحدود، ولا سيما الظاهر بيبرس الذي اشترك في هذه المعركة بالذات وفي المعارك التي شهدها بنفسه. (6)


المراجع:

1.  قصة التتار من البداية إلى عين جالوت، د. راغب السرجاني، الطبعة الأولى 2006، مؤسسة اقرأ. ص292

2. السلطان سيف الدين قطز ومعركة عين جالوت، د. علي محمد الصلابي، مؤسسة اقرأ، القاهرة، 1430 – 2009م، ص 121.

3. السيوطي، تاريخ الخلفاء، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – قطر، ط2، 1434ه – 2013م، 1/ 403.

4. جهاد المماليك ضد المغول والصليبين، عبد الله الغامدي، جامعة أم القرى، رسالة دكتوراه، ص356

5. ابن كثير، البداية والنهاية، مكتبة المعارف، بيروت، 1410هـ – 1990م، 13/ 222.

6. معركة عين جالوت، دراسة في الجيش المملوكي والمغولي، محمد ضاهر وتر، الطبعة الأولى 1989، ص193.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس