د. علي بكراكي - خاص ترك برس

من السهل أن يُتّهم حزب العدالة والتنمية بالفشل في إدارة ملف الإرهاب في البلاد بسبب سياسة الانفتاح التي اعتمدها مع المعارضين الأكراد في ما عرف بعملية السلام التي أقرتها الحكومة التركية معهم مقابل ترك العمل المسلح ضد تركيا والذي استمر منذ العام 1984 واستمر بشكل متقطع لغاية تاريخ اعتقال زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان في 15 شباط/ فبراير 1999.

لقد بدأ حزب العدالة والتنمية بتطبيق الإصلاحات التي وعد بها المواطنين الأكراد منذ العام 2002 فمنحهم حرية استعمال اللغة الكردية كما بادر إلى إعمار مناطق جنوب شرق تركيا ذات الأغلبية الكردية لتخفيف معاناتهم ووضع حد للحرمان الذي كانوا يعانون منه خلال فترة طويلة من الزمن.

يعتبر كثير من الباحثين أن إحدى أسباب نجاح العدالة والتنمية في رفع المستوى الإقتصادي وتحقيق النهضة في البلاد وتوسيع حركة التجارة مع بلدان الجوار القريب والبعيد إنما يعود الفضل فيه إلى وقف حرب استنزاف أنهكت خزينة الدولة لسنوات طوال من خلال نفقات حرب طويلة حصدت أرواح ما يزيد عن ثلاثين ألف مواطن تركي وشردت آلاف القرويين خلال نزاع دام 15 سنة.

لقد دافع الرئيس أردوغان عن رؤيته في تحقيق السلام الشامل مع الأكراد وإنهاء أي مظهر من مظاهر النزاع القومي بين المجتمعين التركي والكردي في البلاد انطلاقًا من تاريخ الأكراد أنفسهم الذين كانوا من أكثر القوميات وفاء للدولة العثمانية ومن المدافعين عن تراب الوطن خلال حرب التحرير. إن تاريخ الأكراد في العالم الإسلامي تميز دائمًا بتقديمهم لانتمائهم الديني على حساب أي شيء آخر... كما برز منهم قادة عظام سطروا ملامح بطولية في تاريخ الدولة الإسلامية لا يزال يذكرهم العالم الإسلامي كله بالكثير من الفخر والاعتزاز.

وبالفعل فإن انخفاض حدة التوتر في جنوب شرق البلاد قد أفضى في العام 2009 الى المزيد من الإنفتاح تجاه المواطنين الأكراد ظهر من خلال عفو جزئي عن بعض أعضاء حزب العمال الكردستاني وتغيير أسماء بعض المناطق من التركية إلى الكردية وفتح القناة السادسة للراديو والتلفزيون الرسمي التركي ناطقة باللغة الكردية إضافة إلى منح الإدارات المحلية مزيدًا من حرية التعاطي مع الشأن العام في المناطق ذات الأغلبية السكانية الكردية...

لم يدم حلم عملية الحل السلمي التي اعتمدتها الحكومة التركية طويلاً، فلقد هوت مع اشتداد رحى الصراع في سوريا وانبعاث أمل نشأة وطن قومي للأكراد بالتزامن مع ما يلوح في أفق المنطقة من إعادة رسم الخرائط وتشكيل الدول من جديد. لقد انتهى الوقف الفعلي لإطلاق النار بين الجانبين والذي بدأ عام 2013 بشكل جدي مع عملية سوروتش في 22 تموز/ يوليو 2015 ليعود الطيران الحربي التركي بعد ثلاث سنوات من الهدوء التام إلى قصف معسكرات حزب العمال في جبال قنديل وشمال العراق.

ومنذ ذلك الوقت تشهد تركيا توترًا عسكريًا متصاعدًا برز إلى الواجهة بشكل أوضح بعد الانتخابات النيابية المؤخرة والتي سمحت بوصول حزب الشعوب الديموقراطي إلى سدة البرلمان التركي وحصوله على ما يقارب ثمانين نائبًا في حدث يمكن اعتباره سابقة في تاريخ السياسة التركية الداخلية. كان من المفترض أن ينعكس هذا الإنجاز السياسي إيجابيًا على مجريات الأمور بحيث يتعزز الانخراط السلمي في الدولة على حساب انحسار الخيار المسلح الذي لم يجلب إلى المناطق ذات الأغلبية السكانية الكردية سوى البؤس والدمار، ولكن العمليات العسكرية تصاعدت بشكل يومي لتحصد أرواح عشرات الجنود من الجيش والشرطة في مشهد لا يمكن أن يمر دون انعكاسات سلبية على الوضع الداخلي التركي والمشهد السياسي في البلاد.

لقد اعتمدت أحزاب المعارضة التركية في حربها السياسية على العدالة والتنمية فكرة فشل عملية السلام التي أعطت الإنفصاليين الأكراد فرصة التمكين العسكري وتجهيز العتاد الحربي وتدريب المقاتلين لمواجهة الجيش التركي بضراوة أكثر وإيقاع عشرات الشهداء في صفوفه عبر كمائن محكمة تدل على تقنية عسكرية واستخباراتية مهمة أصبح من الواضح أن حزب العمال الكردستاني بات يمتلكها.

على الجانب الآخر فإن الإعلام المعارض يشن حملة منظمة ضد حكومات العدالة والتنمية التي كانت لها كلمة الفصل خلال العقد المنصرم. فقنوات التلفزة التابعة لمجموعة (دوغان) إضافة إلى تلك التابعة لجماعة فتح الله غولن تعزف يوميًا نغمات فشل الحكم في التعاطي مع المسألة الكردية وتحمله مسؤولية استشهاد جنود الجيش والشرطة التي باتت جنائزهم تهز وجدان البلاد كلها. أما قنوات الإعلام الخارجي فهي تكثر في هذه الأيام من ترداد أرقام ودراسات تتحدث عن أعداد المواطنين الأتراك المتحدرين من جذور كردية لدرجة وصول بعضها إلى وصف المدن التركية الكبرى مثل إسطنبول وأنقرة وإزمير بأنها أصبحت مدنًا كردية وأن أعداد الأكراد في الجمهورية التركية قد تخطى الخمسة والعشرين مليون نسمة وهو ما يعادل حاليًا ثلث عدد سكان تركيا.

هنا أود أن أشير إلى دراسة نشرتها صحيفة ملليت في 6 حزيران/ يونيو 2008 تحت عنوان (عدد الأكراد في تركيا) قام بها مجموعة من الأكاديميين في عدد من الجامعات التركية وكان على رأسهم البروفسور شعبان كوزغون وذلك بأمر من مجلس الأمن القومي التركي هدفها تبيان أعداد الإثنيات والمذاهب المختلفة الموجودة في الجمهورية التركية. تشير هذه الدراسة أن 85% من المواطنين الأتراك هم مسلمون سنة، أما ما تبقى فيأتي العلويون على رأس أكثريتهم حيث يصل عددهم إلى ما يقارب تسعة ملايين نسمة تقريبًا، وأن مليون نسمة أخرى تتوزع بين الأرمن والسريان والروم واليهود وقبائل الغجر الذين لا ينتمون الى ديانة معروفة. أما إثنيًا فتشير الدراسة إلى أن عدد الأكراد هو ثلاثة ملايين نسمة تضاف اليها أعداد غفيرة من قبائل الظاظا ليصل العدد الإجمالي الى ما يزيد عن 12 مليون نسمة منها مليونان ونصف ترفض الحديث عن أي انتماء قومي غير انتماء المواطنة إلى الجمهورية التركية.

عدا ذلك، هناك الكرجيون والشركس والعرب والبوشناق والأرناؤوط واللاز والبوماك وغيرهم من الإثنيات التي تعيش في تركيا بأعداد قليلة وأماكن جغرافية متباعدة عن بعضها البعض. الجدير بالذكر أن الدستور العلماني في تركيا لا يفرق بين المواطنين بحسب أعراقهم ومذاهبهم وبالتالي فإن كثيرًا من الأكراد وغيرهم قد تبوّؤوا مناصب عليا في الدولة كان منهم مؤخرًا وزير المالية في حكومة حزب العدالة والتنمية محمد شيمشك وهو من جذور كردية كما أن تورغوت أوزال رئيس الجمهورية التركية الثامن وبولنت أجاويد الذي ترأس عدة حكومات ينحدران من جذور كردية أيضًا. هذا بالإضافة إلى قائمة طويلة من الناشطين السياسيين والأدباء والشعراء والفنانين الكبار الذين ينتمون إلى قوميات مختلفة وحظوا بشهرة واسعة وقدرة تأثيرية في المجتمع التركي دون أن يلتفت أحد إلى انتماءاتهم العرقية أو الدينية.

إن الحديث عن القوميات والمذاهب في تركيا هو أمر مستهجن وجديد في مجتمع منفتح يعيش حرية الفكر والدين والديموقراطية السياسية المطلقة بكل ما تعنيه هذه الكلمة. إن من أكبر ما يهدد تركيا اليوم هو بث روح الفرقة بين ابناء الوطن الواحد، كما أن الإرهاب الذي يضرب البلاد في وقت متزامن مع انتخابات نيابية مبكرة يجعل تركيا الحديثة بين مطرقة أعمال عسكرية تستنزف طاقات البلاد من جديد وانتخابات مصيرية ترتبط نتائجها باستقرار الوطن والحفاظ على إنجازات تحققت في شتى المجالات والميادين وكان لها فضل في رفع مستوى الجمهورية التركية إلى مصاف الدول المتقدمة التي تسير بخطى ثابتة إلى الأمام نحو الإستقرار ورفاهية المواطن وتحقيق السلام.

عن الكاتب

د. علي بكراكي

رئيس الملتقى اللبناني التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس