د.أحمد موفق زيدان - خاص ترك برس

تركيا مدعوة لدرس التجربة الباكستانية بعمق في أفغانستان والمنطقة، تجربة ثريّة وعميقة في التعاطي مع قوى دولية كبرى مثل روسيا وأميركا والصين وغيرها، بالإضافة إلى قوى إقليمية كالهند وإيران، وهي نفسها تقريبًا القوى التي تنافس تركيا على سورية، فالتجربة الباكستانية أيام الغزو السوفياتي لأفغانستان هي نفسها تقريبًا إن كان من حيث اللعبة واللاعبون وربما المتلاعبون أحيانًا، أو من حيث سياقات ومجريات تطور الثورتين الأفغانية والسورية، تجربة غنية في أوقات السلم والحرب، وغنية بتحريش المتمردين البلوش بدعم أميركي وروسي وأفغاني وهندي وإيراني على باكستان، تمامًا كما يحصل بتحريش القوى الكردية الانفصالية على تركيا ومن نفس القوى التي كانت ولا تزال تدعم البلوش المتمردين لا من أجل حقوقهم المشروعة كما خال بعضهم ولا يزال، وإنما من أجل إضعاف باكستان والدليل التخلي عنهم تمامًا مع أول انسحاب دولي في أفغانستان إن كان أيام الغزو السوفيتي أو أيام الغزو الأميركي الآن وعودة بعضهم إلى الحضن الباكستاني..

أمامي مثالان مهمان للتجربة الباكستانية الغنية والعميقة الأول تزامن التطور العسكري اللافت الطالباني مع اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة التي يحضرها رئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف، ومؤتمر الأمن الأسيوي الأهم المنعقد في ميونيخ والذي يشارك فيه قائد الجيش الباكستاني الجنرال راهيل شريف، فقد شن أكثر من ألفي مقاتل من طالبان أفغانستان هجومًا على مدينة قندوز الاستراتيجية المهمة قرب طاجيكستان وتمكنوا من السيطرة على كامل المدينة وقتل العشرات من مقاتلي الحكومة الأفغانية، وقد أتى ذلك مع تحريرهم أكثر من 355 سجينًا بينهم 147 طالبانيًا من سجن ولاية غزني وسط أفغانستان، وقبل هذا السيطرة العسكرية لأيام على مدينة إسلام قلعة الاستراتيجية في ولاية هيرات قرب إيران، وهي رسالة باكستانية قوية على أن باكستان قادرة على إدارة معركة الحرب والسلم، وأن الاتهامات التي تُساق على أنها وراء دعم وتزويد حركة طالبان أفغانستان بالسلاح والعتاد غير صحيحة والدليل هو عمليات طالبان  البعيدة مئات الكيلومترات عن حدودها، ولو جاز اتهام أحد بذلك لكان الاتهام للدول المجاورة لهذه البلدات المحررة أولى.

أما بخصوص تركيا في الحالة السورية فعليها أن تكون أكثر هجومًا ولكن بطريقة ذكية على الطريقة الباكستانية بأن يكون الضرب تحت الحزام وبعيدًا عن حدودها وهو ما يُبعد عنها الشبهة أولًا، وثانيًا يؤكد أن العمل العسكري في الداخل عمل ذاتي الإمكانيات ومحلي ويتمتع بالحاضنة الاجتماعية وليس بالحاضنة الجوارية والدولية، وهو بالأصل كذلك وليس بحاجة إلى تأكيده ولكن لتأكيد المؤكد وتثبيت المثبت أصلًا، فسورية كل سورية مجال حيوي تركي، وبالتالي دعم القوى العسكرية في مناطق حيوية قرب دمشق أو غيرها سيجعل هناك فرق كبير في اللعبة، وسيفرض تركيا لاعبًا أقوى وربما وحيدًا لاحقًا بسورية تماما كما كانت باكستان في أفغانستان ولا تزال إلى درجة كبيرة على الأقل من حيث استئثارها بالعلاقة مع طالبان أفغانستان.

المثال الثاني قدرة باكستان ومعها طالبان أفغانستان بالطبع على عدم قطع شعرة معاوية بينهما على الرغم من كل الظروف الصعبة والقاسية التي مرّت بهما، فقد ظلت العلاقة الباكستانية قوية مع أشد المتشددين الطالبانيين شبكة حقاني التي تقاتل على حدودها ضد القوات الأميركية والتي اتُّهمت أميركيًا وهنديًا بتنفيذ عمليات نوعية ضدهما، ومع هذا رفضت باكستان منذ أيام الرئيس الأسبق برفيز مشرف وحتى الآن القيام بأي عمليات ضدها بل وقاتلت من أجل توحيد الجهود بين شبكة حقاني وطالبان ملا عمر وخليفته منصور، حتى تم تعيين سراج حقاني نائبًا للملا أختر منصور، فكانت باكستان على الدوام حريصة على إبقاء طالبان قوة متماسكة، لأنها تدرك أنها عمقها الاستراتيجي في ظل التغول الهندي والإيراني المحمي أميركيًا الآن، تمامًا كالحضور الإيراني المحمي أميركيًا في سورية عبر فيتو أميركي برفض وصول أي سلاح نوي للمجاهدين فيها..

لكن بكل تأكيد فإن العسكر والأمن الباكستاني الذي يُنظر إليهما على أنهما صاحب المشروع الباكستاني بالنظر إلى عمق المؤسسة العسكرية وتشاطرها حكم البلد ظاهريًا مع المدنيين مناصفة عبر تاريخ البلد القصير، وإن كانت هي الحاكمة بالفعل، ولذا فقد وفر هذا لها قدرة ومرونة في التحرك بأفغانستان بدون عراقيل الأحزاب والمجتمع المدني ولعبة الديمقراطية كما هو الحال في تركيا حيث البلد عبارة عن  بيت من زجاج مما يصعب اللعب التركي في جو مؤامرتي رهيب كسورية حيث التآمر الإيراني المتحلل من كل أجهزة الرقابة والحساب الإيرانية، ومعه الاستبداد الروسي المتحلل أيضًا بدرجات مضاعفة وهناك التجربة الأميركية وقدرتها الرهيبة على توظيف دول العالم لمصالحها ولما تريده.

ولذا فبرأيي ما لم يتفق العسكر والأمن التركي مع الحكومة على خريطة طريق واضحة فيما بينهم يسوقونها بطرقهم الخاصة للمجتمع التركي، بأحزابه ومثقفيه وكتابه وإعلامه ومجتمعه المدني ليكون هؤلاء بمثابة صاحب وأب لهذا المشروع فإن المستقبل سيكون خطيرًا على البلد، لاسيما - وأؤكد هنا - على أن الغزو الروسي لشاطئ المتوسط المقصود به تركيا، فسورية غدت منهكة وضعيفة، والهدف منه في أحسن الأحوال استمرار خنق المشروع التركي داخل حدوده بعد أن تكفل النظام الطائفي بسورية على مدى عقود بخنقه داخل  إلى أن ضعف عن المهمة الآن، مع التذكر أن المشروع التركي لم ينجح في العالم العربي إلا بعد أن سيطر على سورية في حربه مع المماليك في مرج دابق 1517 لتكون سورية بذلك بوابة عثمانية بامتياز للعالم العربي.

عن الكاتب

د. أحمد موفق زيدان

كاتب وصحفي سوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس