محمد زاهد جول - الخليج أونلاين

تشغل الخريطة السياسية للانتخابات البرلمانية القادمة في تركيا كافة الأحزاب السياسية التركية المشاركة في الحكومة المؤقتة وفي المعارضة السياسية في البرلمان وخارجه، فالأحزاب السياسية التي لم تنجح في تجاوز الحاجز الانتخابي 10% في الانتخابات الماضية تسعى لتجاوز هذا الحاجز ودخول البرلمان، وأما التي دخلت البرلمان في المرة الماضية بالخداع أو التلاعب أو بالضغوط غير القانونية، فإنها أمام تحدٍّ كبير في خوض الانتخابات القادمة بعد أن انكشفت كافة حيلها القانونية وغير القانونية للشعب التركي أولاً، ثم انكشف للحكومة التركية التي هي الآن أمام مسؤولية سياسية وشعبية وأمنية لإجراء الانتخابات القادمة في ظروف أمنية مطمئنة وسليمة، وعليه؛ فإن كافة الأحزاب مضطرة إلى تغيير خططها السابقة ومعالجة أخطائها التي أثرت على نسبتها في الانتخابات في السابع من يونيو/حزيران الماضي.

حزب العدالة والتنمية من جهته أقدم في مؤتمره الخامس في الثاني عشر من سبتمبر/أيلول الماضي على تصحيح بعض أخطاء الانتخابات الماضية، ومن أهمها إعادة 38 نائباً من الذين حرموا من الترشح في الانتخابات الماضية إلى الواجهة السياسية، وإن لم يترشح جميعهم في الانتخابات القادمة، ولكن وجودهم في العملية الانتخابية سوف يعطي حزب العدالة والتنمية مصالحة مع قواعده الشعبية أولاً، التي لم يرضها الإجراء السابق، وإن كان ذلك وفق اللوائح الداخلية لحزب العدالة والتنمية، والأهم أن هذه الخطوة سترضي قطاعاً كبيراً من الشعب التركي، فكثير من النواب الذين حرموا من الترشح لهم إنجازات كبيرة في النجاح السياسي والاقتصادي داخل الحزب وداخل الحكومات التي تولوا فيها المناصب الحكومية لحزب العدالة والتنمية في الثلاث عشرة سنة الماضية من حكمه، ومن ثم تبين أن حرمان الناجحين في وزاراتهم وتولوا المناصب العليا باقتدار كانت مخاطرة أدت إلى نتائج عكسية.

إن التصحيحات التي أقدم عليها حزب العدالة والتنمية ضرورية لمعالجة أخطاء الماضي، ولكن العامل الأكبر الذي سيحسم الانتخابات القادمة ليست خطط الأحزاب السياسية فقط، وإنما مجريات الأحداث السياسية والأمنية والاقتصادية التي وقعت بعد السابع من يونيو/حزيران الماضي، فقد أثبتت أن كل الأحزاب السياسية التركية كانت غير مهيأة لإقامة حكومات ائتلافية على طريقة الدول الأوروبية الديمقراطية، فقد استفرغت الأحزاب السياسية التركية المدد القانونية لإقامة حكومة ائتلافية يشارك فيها أكثر من حزب سياسي ولكنها فشلت، مما اضطرها إلى تشكيل حكومة برلمانية مؤقتة تعمل لإعادة الانتخابات البرلمانية قبل موعدها المقرر، ولم يتوقف الأمر على الفشل في تشكيل حكومة ائتلافية، وإنما بما صاحبه من ضعف اقتصادي نسبي، وهبوط في مستوى الليرة التركية، وضعف مستوى القدرة الشرائية لدى المواطنين الأتراك، وأخيراً كان لها نتائجها الخطيرة على الأمن القومي التركي، إذ استغلت بعض القوى الداخلية والخارجية عدم استقرار السلطة السياسية في تشكيل الحكومة الائتلافية في إثارة المشاكل السياسية، وتجاوز حزب العمال الكردستاني حدود عملية السلام مع الحكومة التركية بإعلانه التخلي عنها، وتبنيه للعديد من العمليات الإرهابية التي أودت بحياة أكثر من مئة وخمسة وثلاثين (135) مواطناً، واستهداف ثكنات ودوريات الجيش والأمن التركي، التي أوقعت عدداً كبيراً من المدنيين الأكراد ضحايا عملياته الإرهابية.

هذه العمليات الإرهابية قلبت الأوضاع الأمنية في تركيا رأساً على عقب، وغيرت من مجريات الحياة اليومية في الجنوب الشرقي للشعب التركي، وأثرت على فقدان ثقة الشعب التركي من إعطاء ثقتها للأحزاب المراهقة التي لا تُستأمن على مستقبل العملية السياسية، ولا تملك رؤية مستقبلية لاستقرار تركيا، لذلك أصبحت الرغبة لدى الشعب التركي هي حكومة الاستقرار السياسي، وحكومة الاستقرار الاقتصادي، وحكومة الاستقرار الاجتماعي، فهذه هي مطالب الشعب التركي بعد خمسة أشهر من عدم الاستقرار السياسي، وتهديد قطاع الاقتصاديين الأتراك، وتهديد الأمن القومي التركي داخلياً وخارجياً، فالانتخابات المبكرة جاءت لإنقاذ الوضع، ومن المستحيل أن يعيد الشعب التركي الكرة مرة أخرى، ولا بد أن يدفع أحد الأحزاب أو بعضها الثمن بخسارته في الانتخابات القادمة، وإعطاء الفرصة الكاملة للحزب الذي يستطيع تشكيل الحكومة أن يفوز بأغلبية برلمانية تمكنه من تشكيل الحكومة بمفرده، فالأوضاع السياسية الداخلية والخارجية بالنسبة للشعب التركي لا تسمح بإعادة تجربة الحكومات الائتلافية مرة أخرى، وإن كانت في الأصل علامة إيجابية في نمو المستوى الديمقراطي لدى الأحزاب السياسية البرلمانية، وهو ما يؤكد حاجة تركيا إلى النظام الجمهوري الرئاسي، وعدم إبقائها على النظام الجمهوري البرلماني بعد اليوم.

لقد غير حزب العدالة والتنمية أسماء 238 نائباً من المرشحين الأساسيين على مستوى كافة المحافظات التركية، فغير مرشحيه في عدد كبير منها، ومن أهمها مرشحوه في المناطق الكردية، فقد تم تغيير كل مرشحيه هناك، بينما بقيت بعض المناطق على حالها، وتغيير حزب العدالة والتنمية أسماء 238 نائباً دليل على اعترافه بالخطأ، وفي قائمة مرشحي نواب إسطنبول الحالية أدخل الحزب أسماء مرشحين أكراد، حيث يوجد في إسطنبول أكبر عدد من المواطنين الأكراد على مستوى المدن التركية، ولذلك كان لا بد من الإتيان بالأسماء الكردية الكبيرة للترشح عن حزب العدالة والتنمية في إسطنبول وغيرها، وهذا يثبت أن الحزب يملك قدرة ومرونة وبراغماتية في التفاعل مع المتغيرات السياسية الداخلية والخارجية، وهو اليوم، وقبل الانتخابات بأسابيع، أمام تغيرات عسكرية على حدوده الجنوبية السورية، بعد دخول روسيا في أعمال عسكرية لا توافق السياسة التركية، فهدف حزب العدالة والتنمية أن يثبت قدرته على قيادة المرحلة بكل تحدياتها الداخلية والخارجية، وأن تكون الانتخابات هي انتخاب الحزب الأقدر والأجدر والأنجح على تقدم تركيا.

إن تقارب حزب العدالة والتنمية مع المواطنين الأكراد ضروري جداً في هذه المرحلة، فقد خابت ظنونهم من حزب الشعوب الديمقراطي، بل خيب حزب الشعوب الديمقراطي ونوابه الثمانون في البرلمان كل الشعب التركي، بما فيهم الناخبون الأتراك الذين صوتوا لحزب الشعوب الديمقراطي بإرادتهم الشخصية أو الحزبية، كما طلب حزب الشعب الجمهوري من عناصره التصويت لحزب الشعوب الديمقراطي في الانتخابات الماضية، لأهداف مشبوهة، أو تلبية لمطالب إقليمية ودولية أوروبية أو أمريكية، فهؤلاء هم اليوم نادمون على تصويتهم لحزب الشعوب الديمقراطي، لأنه فشل في أدائه السياسي، وعجز عن وضع مسافة كبيرة بينه وبين إرهاب حزب العمال الكردستاني، الذي يحارب الشعب التركي، ويقتل جنوده ويدمر ممتلكاته العامة، ويتعامل مع أعداء تركيا الدوليين والإقليميين لتحقيق أهداف تضر بالدولة التركية وتضر بالقضايا التي يتبناها الشعب الكردي داخل تركيا وخارجها.

ولذلك، فإن عودة حزب العدالة والتنمية إلى مخاطبة الشعب الكردي، وتبني قضاياه، والعمل لتحقيق أمنياته وحمايته من شر حزب العمال الكردستاني وتهديداته لهم، ستكون من الطرق الضرورية لنجاح الانتخابات القادمة وتشكيل حكومة استقرار وطني وقومي وسياسي وأمني، حتى إن العديد من الأكراد يسعون لإيجاد تقارب أو ائتلاف حزبي في الحملات الانتخابية وعملية التصويت على المرشحين القادمين بين حزب العدالة والتنمية مع حزب الهدى الكردي، وآخرون يطالبون بالتحالف مع حزب السعادة، وكلاهما حزبان ذوا مرجعية وتوجهات دينية معروفة، وقد لبى حزب العدالة والتنمية هذه الرغبات بترشيح السيد إسماعيل كهرمان، وهو وزير سابق ومخضرم في السياسة وشخصية مؤثرة على أنصار حزب السعادة، فأتت به قيادة حزب العدالة والتنمية بعد اعتزاله العمل السياسي حيث إن عمره أكبر من سبعين عاماً.

إن حزب العدالة والتنمية وحده القادر على الفوز بأكبر عدد من النواب وتشكيل حكومة بمفرده، ومن ثم فهو الأقدر على إقامة حكومة استقرار سياسي واقتصادي واجتماعي في تركيا، أما الأحزاب الأخرى وبالأخص الأحزاب الثلاثة الأخرى في البرلمان فلا تستطيع الفوز بأكثر من 276 نائباً، ومن ثم لا حظوظ لها لتشكيل حكومة استقرار بمفردها إطلاقاً، لذلك فلا غرابة أن الناخبين الأتراك الذين لم يصوتوا لحزب العدالة والتنمية في المرة الماضية سيصوتون له في الانتخابات القادمة، فالمسألة ليست تنافس أحزاب سياسية في السلطة والمعارضة، وإنما تنافس نجاح تركيا أمام من يناصبونها العداء، ويعملون على عرقلة مسيرتها النهضوية، ويخططون بل شرعوا في إدخالها في دوامة الإرهاب في المنطقة، فالشعب التركي اليوم ليس أمام تنافس حزبي فقط، وإنما هو أمام تنافس إقليمي، لا تسعى الحكومة ولا حزب العدالة والتنمية الحديث عنه بصورة صريحة، لأنهما لا يهدفان إلى تقوية ساحة التنازع الداخلي، ولا فتح صفحات صراع إقليمي، حتى لو كانت الأطراف الأخرى متهورة ومتورطة في سياسة مذهبية طائفية أرهقت المنطقة سياسياً، وأراقت الكثير من الدماء البريئة في العراق وسوريا ولبنان واليمن، والخشية مما يحصل ويأتي أكبر لا سمح الله.

عن الكاتب

محمد زاهد جول

كاتب وباحث تركي مهتم بالسياسة التركية والعربية والحركات الإسلامية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس