د.أحمد البرعي - خاص ترك برس

منذ ان انضمت تركيا إلى حلف شمال الأطلسي"الناتو" عام 1952 ترسخت العلاقات الاستراتيجية بين الولايات المتحدة الأمريكية والجمهورية التركية. شهدت تلك العلاقات الثنائية فترات من الفتور والقطيعة، ومراحل أخرى من التقارب والتكامل في مسائل عدة من قضايا المنطقة، فتلاقت المصالح، وتكاملت الأدوار أحياناً في مواجهة تحديات مختلفة على مدار العقود السابقة.

حقبة ما قبل العدالة والتنمية

حين دخلت القوات التركية إلى قبرص عام 1974، وكان ذلك التدخل ردًا على دعم المجلس العسكري اليوناني للانقلاب على نظام الحكم في قبرص، وقد انتهت العملية العسكرية بانتصار الجيش التركي، وتم وإعلان استقلال جهمورية شمال قبرص التركية. وقتها فرض الرئيس الأمريكي "ليندون جونسون" حظراً على تزويد تركيا بأي من الأسلحة الأمريكية، وأبرق برسالة شديدة اللهجة لرئيس الجمهورية التركية آنذاك "عصمت إنونو" مهدداً ومحذراً بأن تركيا إن استمرت بسياستها العدائية واستخدامها القوة ضد قبرص، فإن الولايات المتحدة ستتخلى عن تركيا كحليف إستراتيجي في المنطقة.

تلى تلك المرحلة فترة من الجمود في العلاقات استمرت ما يقارب 7 سنوات، إلى أن جاء الانقلاب العسكري في العام 1980، إذ عمد جنرالات وعسكر الانقلاب التركي حينها إلى سياسية الوفاق والمصالح المشتركة، وحدث تقارب استراتيجي مع الولايات المتحدة. وما كان من الولايات المتحدة والتي كانت في تلك الفترة مترقبة ومتوجسة من عواقب الثورة الإيرانية إلا أن فتحت أبوابها، وأشرعتها في وجه جنرالات وعسكر الجيش التركي، وكان ذلك بمثابة إشارة واضحة أن الولايات المتحدة لا تريد تركيا ذات السيادة، صاحبة زمام المبادرة، المتمردة على الهيمنة الأمريكية.

إبان حكم الرئيس التركي "أحمد نجدت سيزار" (2003) وضعت الولايات المتحدة الأمريكية خططها لغزو العراق وجندت التحالف الدولي بقيادتها، وكانت تركيا إحدى أهم تلك الدول التي كان من المفترض أن تشارك بقوة في عمليات التحالف، بيد أن البرلمان التركي رفض المشاركة لعدم تحقيق الأغلبية، وذلك بفارق 3 أصوات فقط. إلا أن أنقرة في النهاية فتحت قاعدة إنجيرليك الجوية لقوات التحالف الدولي المشاركة في الحرب العراقية، وذلك بهدف حماية أهداف قوات التحالف في المنطقة من هجمات محتملة لأي تصعيد عسكري عراقي.

عقب سقوط بغداد واحتلال العراق، اجتمع البرلمان الكردي وأعلن استقلال كردستان العراق، وبعث وزير الخارجية الأمريكي وقتئذ "كولن باول" بخطاب تهنئة وصف فيه الأكراد بحليف أمريكا، ما أثار حفيظة رئيس الوزراء التركي "بولنت أجاويد" وهدد بالتدخل العسكري في حال قيام دولة كردية مستقلة، ما دفع "برزاني"، رئيس إقليم كردستان العراق حينها لأن يصرح بأن شمال العراق سيكون مقبرة الجيش التركي إن تدخل عسكرياً في العراق.  

في ظل حكومة العدالة والتنمية

قديما قال أحد الأتاتوركيين "يحُد تركيا من ثلاث جهات، ثلاثة بحار، ويحدها الأعداء من أربعة جهات" وكانت تلك هي العقلية السياسية التي سيطرت على صانع القرار التركي وقولبت تركيا وحجمت دورها إبان حقبة الحرب الباردة، وتصدر المنهج القطبان المتصارعان، ولعب كلاهما بورقة أقليات المنطقة لتفتيت وحدتها وتدمير أحلام عودة الخلافة العثمانية وكان بطل هذه القصة دائماً الأقليات العرقية وأهمها الأكراد.

نجح حزب العدالة والتنمية منذ توليه مقاليد الحكم عام 2002 بإدارة ملف العلاقات الخارجية بسياسة منظره "داوود أغلو" التي اعتمدت على منهج "صفر مشاكل" مع دول الجوار وعبارته الشهيرة أن "جميع دول العالم إما أنها صديق حالي لنا أو صديق محتمل"، ونجح العدالة والتنمية أيضاً نجاحاً باهراً بإدارة ملف العلاقات التركية الأمريكية إلى أن توطدت العلاقات بين البلدين كحليفين إستراتيجيين. تباينت وجهات نظرهم في عديد من القضايا إلا أن ذلك التباين لم يصل حد القطيعة أو الخلاف السياسي الحاد.

جيزي بارك

في مايو / أيلول 2013 شكلت حركة الاحتجاج السلمي لمجموعة من الشباب والفتيات – استغلت بعد ذلك من أطراف عدة داخلياً وخارجياً في محاولة لتأجيج الموقف وتصويره على أنه ربيع تركي ضد العدالة والتنمية – نقطة خلاف حاد بين الإدارة الأمريكية والحكومة التركية، إذ أعربت واشنطن عن قلقها ومخاوفها من تدهور حرية الصحافة والإعلام ومن تصاعد انتقادات المعارضة التركية لقمع الحكومة لوسائل الإعلام الاجتماعي – كانت الحكومة قد حظرت موقعي يوتيوب وتويتر – وكذلك أعربت الولايات المتحدة عن تخوفها من التدخل الحكومي في استقلالية السلك القضائي وعمل المدعي العام التركي. كل هذه الاتهامات وغيرها رفضتها حكومة العدالة والتنمية وانتقدتها بشدة، وعلت أصوات رئيس الوزراء آنذاك "رجب طيب أردوغان" ومستشاروه بانتقاد الولايات المتحدة ووسائل إعلامها، وتدخلها غير المبرر في الشأن التركي. في النهاية تم تجاوز تلك الفترة مرحليا.

انقلاب مصر

في الثالث من يوليو / حزيران جاء الانقلاب العسكري في مصر على أول رئيس مدني منتخب من قبل الشعب المصري. وقف "الطيب أردوغان" موقفاً مبدئياً لا يقبل التسامح ولا النقاش، ورفض الاعتراف بالانقلاب وما تبعه ورفض كافة الضغوط الأمريكية والأوربية والعربية لأي محاولات تقارب مع النظام المصري الانقلابي، ووجه وقتها صراحة أصابع الاتهام لاسرائيل وحلفائها من الغرب بالتخطيط لتنفيذ انقلاب مصر وأخذ عليهم ازدواج معاييرهم في التعامل مع شعوب المنطقة وعقابهم لها إن أتت ديمقراطيتهم بغير ما يرغب الغرب.

الموصل

في نهاية العام الماضي، دخل 120-150 جندي تركي مدعومين بـ 20-25 دبابة منطقة بعشيقة شمال الموصل، وقد قالت تركيا أن هذه القوات موجودة لتدريب قوات البيشمركة الكردية، بينما اعتبرتها حكومة بغداد المركزية برئاسة "حيد العبادي" اعتداءً صارخاً على سيادة العراق وانتهاكاً لأراضيه، لكن الغريب في الأمر أن الولايات المتحدة كانت قد اختارت الصمت ازاء التدخل العسكري التركي، وذلك رغم معالجة الإعلام الغربي الرافضة بتاتاً لذلك التدخل، واعتباره اعتداءً سافراً على سيادة العراق وأراضيه.

عين العرب "كوباني"

كانت عين العرب كوباني هي الشعرة التي قصمت ظهر البعير، إذ شكلت بداية التحول الحقيقي في العلاقات والتوازنات الإقليمية وخاصة في العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة وتركيا. بدأت المعركة صيف عام 2014، وبدأ تصوير الغرب الهوليوودي لعين العرب "كوباني" على أنها رمز الصراع في المنطقة وأنها القلعة الصامدة أمام التمدد الداعشي التكفيري والإرهابي، وأنها المعقل الأخير الذي يجب أن ينتصر في وجه الهمجية الإرهابية ضد الأقليات الأزيدية والكردية وغيرها.

استُغلت الأحداث في عين العرب وحاول الإعلام الغربي تصوير تركيا على أنها قد تتعاطف مع داعش على حساب الأكراد، شريطة أن لا تقوى شوكة الأكراد في الخاصرة الجنوبية الشرقية لتركيا، فتتعاظم قوتهم وتصحو تركيا في نهاية المطاف على كردستان أخرى في سورية. دخلت تركيا في التحالف ضد تنظيم الدولة "داعش" وسمحت بإرسال قوات البشمركة العراقية للمشاركة في مواجهة "داعش".

وهنا تعاظم دور حزب الاتحاد الديمقراطي "PYD" وذراعة العسكري وحدات حماية الشعب الكردي “YPG” إذ أسخى عليهم الشرق والغرب، ومدهم بشتى أنواع الأسلحة لمواجهة قوى الإرهاب العظمى "داعش" التي عجز العالم عن صدها!!

مؤخراً، تجاوزت الأحزاب الكردية مرحلة مواجهة "داعش" وظهر ما وراء الأكمة من مخططات قديمة حديثة تسعى إلى استغلال الأكراد لزعزعة أمن تركيا ومحاولة تفتيت جنوبها والاستقلال عنها، حيث أشار "أردوغان" إلى أن روسيا تتحرك بالتنسيق مع النظام السوري وعناصر حزب الاتحاد الديمقراطي "PYD" لإكسابهم مزيداً من المساحات في الشمال السوري لتمكينهم من تشكيل حزام كردي في تلك المناطق، من أجل تهديد أمن وسلامة تركيا، وهو ما اعتبرته أنقرة خطاً أحمراً لا يمكن بحال أن تتنازل عنه ولا أن تسمح بتخطيه.

عقب التفجير الإرهابي الأخير في أنقرة في 17 فبراير / شباط والذي راح ضحيته 28 شخصاً بين عسكري ومدني، أعلنت جماعة صقور حرية كردستان الكردية المنشقة مسئوليتها عن العمل الإرهابي. توعد أردوغان برد قاس إزاء هذا العمل الإرهابي الذي استهدف قلب العاصمة التركية في سابقة هي الأولى في تاريخ الجمهورية التركية، إذ تعد المنطقة التي حدثت فيها العملية منطقة عسكرية وحكومية يصعب اختراقها.

كعادته اتصل الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" هاتفياً بنظيره التركي "الطيب أردوغان" معزياً، ومواسياً، ومعرباً عن تضامنه مع أهالي الضحايا والحكومة التركية، استمرت المكالمة 80 دقيقة بين الرئيسين، وانتهت بالاتفاق على أن يصدر بيان مشترك بين الحكومتين، إلا أن البيان التركي صدر قبل بيان البيت الأبيض بأربع ساعات، وكان مختلفاً عن النسخة الأمريكية في عدة نقاط مهمة، فمثلاً البيان الأمريكي لم يتعرض بأي نقد لممارسات وحدات حماية الشعب الكردي، بل أعرب فقط عن قلقه من تقدم القوات الأسدية، بينما انتقد البيان التركي ممارسات وحدات الحماية بشدة. لم يتطرق البيان الأمريكي لحق تركيا في الدفاع عن نفسها، وحقها في حماية أمنها القومي، بينما أكد البيان التركي على كامل الحق لتركيا في الدفاع عن أمنها واتخاذ كافة التدابير اللازمة لمواجهة أي تهديدات إرهابية محتملة. كما أن البيان الأمريكي في النهاية قد دعا تركيا لوضع حد لقصفها لمواقع الأكراد في الداخل السوري، وهو ما أثار حفيظة الدبلوماسية التركية والإعلام التركي المقرب من الحكومة، وبدأت حوارات المثقفين تأخذ منحى التشكيك في مصداقية الحليف الأمريكي بل والتخوف من توريطه لتركيا وتخليه عنها، ما دفع بعض نواب العدالة والتنمية بالقول إن الغرب وأمريكا لن يستيقظا إلا والقوات التركية في وسط حلب، وحينها سيعلمون أن تركيا لن تفرط في أمنها ولن تسمح بتخطي خطوطها الحمراء إذ إن أمن تركيا القومي ليس مجالاً للتهاون والتلاعب.

هل ستتخطى العلاقات التركية الأمريكية هذه المرحلة الحرجة وتعود للغة المصالح والتفاهمات، وتستطيع أنقرة اقناع الحليف الأمريكي بحيوية دورها ومحوريته، وخطورة المنهج الذي تتبعه الآن؟ أم هل ستستمر الإدارة الأمريكية في مخطط إشغال تركيا وتحجيم دورها في المنطقة بزرع خنجر في خاصرتها الجنوبية الشرقية والهائها بقضايها الداخلية؟ هل ستسمح تركيا لـ"قنديل" أو كردستان أخرى في سوريا أم ستخرج عن استخدام قوتها الناعمة وتدخل غمار معركة عسكرية قد يراها البعض مستحيلة عملياً ويراها الآخرون حتمية لا مفر منها؟

يبدو أن الإدراة الأمريكية المغادرة لن تخيب ظن من قال "يا رياح كثر قبايح" وستخيب ظن من قال "يا رايح كثر ملايح".

عن الكاتب

د.أحمد البرعي

باحث ومحاضر في قسم الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة أيدن


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس