م. معين نعيم - خاص ترك برس

لطالما لعبت الدراما السينما دورا هاما في صناعة وعي الشعوب وتشكيل رؤيتها نحو نفسها وتاريخها وكذلك نظرتها للآخر فكلنا يعلم كيف صنعت الكاميرا صورة ذهنية في السابق لليهودي من أنه التاجر البخيل أو المرابي البغيض الأمر الذي تحول بعد مدة لتشويه صورة العربي خصوصا والمسلم بشكل عام.

والشعب التركي ليس ببدعة من  الشعوب فما سرى على كل شعوب العالم في هذا الشأن سرى على الشعب التركي فقد كانت السينما التركية وهي سينما ليست بالقديمة مقارنة بالسينما العالمية فقد بدأت في الثلاثينيات ببعض الانتاجات المشتركة مع المصريين واليونانيين لكن بعدها تطورت وعاشت السينما التركية في خمسينيات القرن الماضي عصرها الذهبي محليا مع انتشار دور السينما ورعاية وتأسيس المؤسسات الحكومية التي ترعى الفن والفنانين لكن من القضايا التي ركزت عليها الإنتاجات السينمائية في حينها وحتى ثمانينيات القرن الماضي كان صناعة الصورة الذهنية والوعي المجتمعية في قضية الدين والقومية التركية وقد لا أكون مخطئا إن قلت أنها كانت صاحبة دور مؤثر في تشويه هذا الوعي وفرض الأوهام التي أرادتها الجهات الداعمة لهذه الأعمال حول الأمة التركية ودينها وأخلاقها بل وتاريخها.

فقد صورت الدراما والسينما التركية - كما السينما العربية في نفس الفترة وحتى الآن – المتدين على أنه مخادع كاذب وإمام المسجد الملتحي على أنها مرتشي وسارق ولا أخلاق لديه ولا دين ولم تظهر الفتاة المحجبة إلا في دور الخادمة الفقيرة الجاهلة أو المتسولة البغيضة في الشوارع.

أما التاريخ التركي فقد حاولت الدراما إقناع المواطن التركي أنه جاء من الجبال بالصدفة وأنه وصل بلاد الأناضول مع ذئبه الأغبر ولبسه البدائي الذي يشبه لبس العصر الحجري الذي يرتديه أبطال العصر الحجري في أفلام الكرتون وأن بطولاته كلها فردية وتاريخه لا امتداد له وأنه أسس حكمه بطريقة بدائية دون اتصال بمن قبله من الحضارات والدول خاصة الإسلامية منها ثم تطور الحال في هذه الإنتاجات لتصور السلاطين كأن أحدهم زير نساء وأن الإمبراطورية العثمانية كانت تحكمها مجموعة من النساء المتنافسات والسلاطين على أنهم فشلة ظلمة ..وفي التسعينات انتشرت الأفلام الهزلية التي جعلت من السلاطين والتاريخ مادة للسخرية والاستهزاء بل والإهانة. 

واستمر الأمر في نهاية التسعينيات وبداية الألفية على نفس المنوال حتى كان آخر هذه الإنتاجات أو قل أشهرها هو المسلسل الذي ما زال مستمرا بنسخة محدثة حول حياة السلطان سليمان القانوني تحت عنوان حريم السلطان التي جعلت من الخليفة الذي عرف عنه أنه أمضى معظم حياته على ظهر فرسه فاتحا حيث وصل بفرسه وفتوحاته لأقاصي لبلغاريا والمجر وغيرها من دول غرب أوروبا بعد فتح صربيا والبوسنة وغيرها على أنه سلطان قضى حياته بين النساء وفي غرفة نومه ليتمتع برغد الحياة بينهن وهن يسيطرن على الدولة الأقوى في ذلك العصر.

وبعد عدة مواجهات فاشلة قانونية وإعلامية بين الحزب الحاكم المحافظ وشركات الإنتاج والقنوات الفضائية المعادية للفكر المحافظ والقومي تحركت الحكومة بحملة من المسلسلات القصيرة والطويلة والأفلام التي تطرح الرؤية الأخرى للتاريخ العثماني والمفاهيم المتعلقة به ومن أهم ما تركز عليه هذه المنتجات الفنية هي روايتها الخاصة بالتأسيس والأفول لأحد أهم الامبراطوريات التي حكمت العالم وحولت البحر المتوسط لبحيرة داخلية فيها.

فقد أنتج التلفزيون الحكومي المسلسل القصير "جهان قلعة32 " من أربع حلقات والذي أظهر حقيقة علاقة أتاتورك بمعركة جهان قلعة كضابط إمداد لا أكثر على عكس ما تشيعه القصص والخرافات التاريخية الأتاتوركية التي حاولت وتحاول إظهار أتاتورك على أنه قائد المعركة والمخلص لتركيا حتى قبل تأسيسها ثم تلاه المسلسل "فيلينتا" الذي يتحدث عن كيف شاركت الدول الغربية وعلى رأسها بريطانيا التي كانت الأقوى في الغرب في حينها في نخر عظم الدولة العثمانية عبر الخيانات واللوبيات الموالية لها وكيف حاول عبد الحميد منع السقوط بكل الطرق الممكنة وكيف أن المواطن التركي كان يرى في هذه الدولة ممثلته بل وأمله على عكس ما أشاعته كتب التاريخ المأدلجة من قبل العلمانيين الكماليين في تركيا حيث تساوقت مع الدعاية الغربية المعادية في تشويه صورة الدولة وإشاعة أن المواطنين في الدولة كانوا يتوقون للتخلص منها ومن ظلمها بأي طريقة.

أما على صعيد نشأة الدولة العثمانية فكان الإنتاج الأقوى في تاريخ الدراما التركية والأكثر متابعة على مر تاريخ الإنتاج التلفزيوني التركي حسب الإحصائيات الرسمية مسلسل "قيامة أرطغرول" الذي يحاول أن يوصل رسالتين مهمتين للمشاهد التركي وهما أن هذه الدولة جاءت امتدادا لدولة وحضارة كانت قائمة قبلها وأن مجدها هو امتداد لهذا المجد والبعد الثاني هو أن من أسسوا هذه الدولة أسسوها على أصول أخلاقية وثقافية إسلامية ومرجعيتهم كانت دينية مرتبطة بتاريخ وحضارة الأمم التي سبقتها في قيادة الأمة الإسلامية.

وفي الأيام الأخيرة بدأت تظهر على شاشات التلفزيونات الحكومية والصحف القريبة منها دعاية خاصة بمسلسل جديد "رجل العاصمة/ العرش عبد الحميد" والذي يتوقع أن يتكلم عن قصة السلطان عبد الحميد منذ استلامه للحكم على خلاف ما أرادت اللوبيات المعادية للدولة العثمانية والتي كانت تستعى للسيطرة عليها حتى اسقاطه عن العرش بطريقة في مرحلة شاركت فيها جمعيتي تركيا الفتاة والاتحاد والترقي التي عرفتا بولائهما للماسونية العالمية.

يبدو أن لدى الحزب الحاكم وبعد خسارة حملة أردوغان ضد مسلسل حريم السلطان المسيء للتاريخ العثماني وسلاطينه اتخذ قرارا باتباع سياسة الرد على العمل المسيء بعمل معاكس ولكنه في الجودة أفضل من حيث الفكرة والأداء والرسالة التي يحملها ويبدو أنه نجح في تركيا بل وخارج تركيا بشكل كبير حيث نرى الانتشار والمتابعة الواسعتين للمسلسل "أرطغرول" بل وتأثر الشباب به في المجتمع التركي.

ولم يكن هذا الإنتاج هو الأول من نوعه في هذا الاتجاه فقد بدى هذا واضحا في المحتوى الفني للكثير من المسلسلات والإنتاجات الفنية التي تنتجها القنوات الحكومية والمؤسسات الإعلامية المقربة من الحزب الحاكم فأصبح من السهل أن تجد البطل ذلك الشاب المتدين الطيب الخدوم بعد أن كان مرتهن اسمه بالإرهاب أو التجارة بالمخدرات التي يستخدم التدين للتغطية على جرائمه وفساده وذلك أصبحت صورة الرجل الشيخ المتدين الحكيم والمتحضر والمؤثر والملتزم بعباداته والمؤثر في مجتمعه طبيعية في هذه المنتجات بعد أن كان رمزا للكذب والاستغلال  وكذلك أصبحت المحجبة مثقفة طبيبة أو أي شخصية مركزية محترمة في الدراما بينما كانت المنتجات القديمة تصر على إبقاءها دون المستوى المحترم مجتمعيا كخادمة أو فقيرة غير قادرة على إعالة نفسها وأسرتها وزوجها سكير فاسد.

وهو بهذا يحاول الحزب الحاكم إعادة صياغة الوعي التركي عبر الدراما ليستعيد احترامه لتاريخه وماضيه ويعتز بثقافته وحضارته بل ويحن لإعادة أمجاده التي انقطع اتصاله بها ثقافية وفنيا وإعلاميا لحوالي قرن من الزمان بطريقة مفتعلة بل وبالقوة.

عن الكاتب

م. معين نعيم

باحث وكاتب مختص في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس