عبد العليم الكاطع - خاص ترك برس

"الديمقراطية بجوهرها العميق

ممارسة تطال جميع مناحي الحياة

وهي أسلوب للتفكير والسلوك والتعامل

وليست مجرد مظاهر أو أشكال

مفرغة الروح” (عبدالرحمن منيف)

كثيرًا ما تدور الحوارات بين الشباب العربي - على اختلاف جنسياتهم واتجاهاتهم – وتطرح أسئلة عميقة:

هل الديمقراطية هي الأفضل للمجتمعات العربية في الوقت الراهن؟

هل الشعوب العربية مؤهلة للتحول الديمقراطي؟

هل عاش عالمنا العربي والإسلامي أي نوع من أنواع الديموقراطية في الحاضر أو في الماضي؟

الثورات الأخيرة والتطورات المتتالية التي شهدتها البلاد العربية دفعت الكثير للقول إن الديمقراطية لا تصلح أبدًا للمجتمعات العربية حاليًا وتطبيقها من الصعوبة بمكان وإن الشعوب العربية تفتقر إلى ثقافة الديموقراطية وثقافة الحريات؛ وهذا ما بدا واضحًا في المراحل الانتقالية بعد ثورات الربيع التي عاشتها كل من مصر وتونس وليبيا.

حتى وصل القول بهم إننا شعوب لا نعيش إلا في ظل السيف، وإذا ما أراد أحدٌ حُكمنا لا يستقيم له الأمر إلا ببحرٍ من الدماء وأكوام من الجماجم.

ومنهم من قال إن التغيير من الحالة الديكتاتورية إلى الحالة الديمقراطية لا يأتي بين يوم وليلة وأن هذه الأمور تحتاج إلى وقت وجهد لكي تترسخ في عقول الشعوب وتصبح منهج حياتهم.

منهم من يرى أن مشكلتنا تنتهي بمجرد القضاء على المؤسسات العسكرية التي تتحكم بالقوة والمال وتسعى دائمًا إلى قلب الطاولة على أي تجارب ديمقراطية وتعمل على تشويه هذا المصطلح وتضع الشعوب بين خيار إما الأمن والاستقرار أو الحرية والديمقراطية.

والبعض يقول: عالمنا العربي والإسلامي هو المصنع الحقيقي للاستبداد والطغيان والجبروت؛ وإذا ما حاولنا ان نصنع ديمقراطيات نصنعها ممزوجة بعناصر التوريث والديمومة.

وكل ما سبق يتناقض تمامًا مع رأي الكثير من السياسين والكتاب والمثقفين - أيام الديكتاتوريات - الذين كانوا يظنون أن الديمقراطية هي حالة روتينة تأتي بمجرد زوال الديكتاوريات ورموزها، وبمجرد وجود أي نوع من أنواع الحياة الديمقراطية.

مشكلتنا مع أنفسنا فقط

ربما يكون السؤال الأهم: هل المشكلة في النظام الديمقراطي أم في طريقة تطبيقه أم في طبيعة وجاهزية المجتمعات والشعوب؟

المشكلة من وجهة نظري ربما هي في طبيعة المجتمعات والشعوب، وجاهزيتها لتقبل هذا الموضوع؛ وتكمن المشكلة على وجهين، الأول:

أن الشعوب العربية والإسلامية لم تعش حياة ديمقراطية أبدًا، باستثناء تلك التجربة غير المكتملة في فترة الخلافة الراشدة. على هذا فإننا نفتقر بشكل كبير إلى الثقافة الديمقراطية فضلًا عن التجربة. ولكن هذه النقطة يمكن تداركها عن طريق الانفتاح والتعلم وبدء ممارسة الحياة الديمقراطية بأشكال مصغرة في المؤسسات والمحليات.

أما الوجه الثاني: هو خاصية نفسية، ترتبط بطبيعة تكوين شخصية الإنسان العربي وتربيته وثقافته، هذه الخاصية جزء منها متأصل في بنية وتركيبة الإنسان العربي؛ والجزء الآخر يعتمد على طريقة التربية ونوعيتها. ألا وهي خاصية التمرد وعدم المطواعية، وتتفرع هذه الخاصية إلى حب القيادة والاعتداد بالذات وحب السيطرة والظهور.

أما التاصيل في هذه الخاصية هو ما قرأناه وعرفناه بشكل مباشر أو غير مباشرفي سير العرب وقصصهم؛ كما في حياة كليب بن وائل البكري وفي يوم ذي قار. كما أنها مترسخة في قريش؛ فقريش لم يكن لها زعيم واحد كما هو الحال بباقي القبائل، بل أصروا على أن يتقاسموا شرف السلطة وخدمة الحجيج بينهم ويتجلى ذالك في الحادثة المشهورة التي حسمها النبي الكريم في شرف وضع الحجر الأسود في الكعبة. وهذه الخاصية نفسها هي التي منعت رموز قريش وكبرائهم من اتباع الدين الإسلامي، ويتجلى هذا واضحًا في موقف العاص بن وائل وعمروبن هشام.

التمرد وعدم المطواعية، هي صفة موجودة بالفعل لدى العرب ولكن بعد أن جاء الإسلام وجهها وهذبها عن طريق تربية النفس ومصلحة الأمة والأهلية والكفاءة. وعلى هذا تربى جيل الصحابة وعلى هذا تربت نفوسهم وتهذبت شخصياتهم. ولكن سرعان ما فقدت هذه الخاصية تهذبيها وتشذيبها وعادت للظهور في زمن عثمان وبشكل واضح في زمن علي وما تلاه من عصور، لنصل اليوم إلى وقتنا الحاضر لنجد أنفسنا متمردين على أي محاولة ديمقراطية ولا يُلجمنا إلا دكتاتوريات مجرمة كما هو الحال مع داعش والسيسي ومن سبقهم. لنجد أنفسنا شخصيات ينخر فينا الفساد من كل جانب، وكل منّا يرى نفسه أنه أحق بالقيادة والرياسة، وأنه هو الأصلح والأنفع لها. حتى أنني أكاد أجزم أنه ليس هناك عربي اليوم لم يتخيل نفسه ويحلم يومًا أن يكون قائدًا أو زعيمًا أو ملكًا أو رئيسًا!!

الديمقراطية حلوة بس نفهمها

الحل ربما يكون في تربية جيل يحترم القانون ويقدسه وكل منهم يعرف مقدار نفسه ومقدار امكانياته فلا يطغى ولا يفسد ولا يتمرد، ولا أقصد هنا أبدًا أن نُحطم أحلام الأطفال والشباب وطموحاتهم؛ على العكس يجب أن نسعى إلى توجيهها كلٌ حسب إمكانياته وحسب قدراته، فمن نرى فيه صفة القيادة ندعمه ليكون قائدًا، ومن نلمح فيه نباهة العلم نشجعه ليكون عالمًا...إلخ

ففي كل إحصائيات القيادة وعلومها تقول أننا نحتاج من واحد إلى اثنان في المئة من عامة الناس ليكونوا قادة؛ أما الباقي فمنهم العَالم والطبيب والمهندس والفلاح والنجار، وبمجموع هؤلاء كلهم تتشكل الأمة وتتعاضد وتنجح وهذا شكل متطور من أشكال العمل الجماعي على مستوى الأمة. وهذا ما عمل عليه الرسول الكريم وقام بتربية جيل كل منهم يعرف مكانه ولكل منهم مهمته، وهذا ما فهمته الدول المتقدمة وقامت بتطبيقه بشكل واضح وبدأت بذلك من المراحل الاولى للتربية. احترام القانون والأديان والعمل الجماعي لصالح الأمة والمجتمع. هكذا فقط تتوجه الأحلام وتتهذب النفوس، وتوضع الأمة على المسار الصحيح.

لهذا فإن أحد أهم أسباب حالات التردي التي تعاني منها مجتمعاتنا تعود إلى نزعة التفرد ومحاولة إقصاء الآخرين فعندما تنزع صفات التمرد والتفرد ونستبدلها بالتشارك بالعمل حسب الكفاءة والإمكانيات عندها نكون خطونا خطوات مميزة في طريق الديمقراطية.

الديمقراطية ليست مجرد مؤسسات سياسية وفعاليات انتخابية أو تعدديه حزبيه بل هي أيضاً تحولات عميقه في جميع كيانات المجتمع وبُناه الثقافية والسياسية؛ وهي أيضًا عملية بناء وتأسيس تبدأ بالإنسان أولًا وأخيرًا. تبدأ بالتركيز على الأجيال الناشئة وغرس فيها الصفات الديمقراطية بكافة أشكالها. لتتحول مقولة الرأي والرأي الأخر من عنوانين فارغة على شاشات التلفزة إلى أسلوب حياة في المجتمع. وتتحول حرية التعبير عن الرأي من مانشيتات ملفتة في الصحف والمجلات إلى منهج عملي يرسم حدود وأبعاد المجتمع.

كما أنه من السذاجة بمكان أن يفهم الناس أن الحريه والديمقراطية هي البديل للخبز والأمان، فهي لاتجعل الغني فقيرًا ولا العكس وإنما هي النمط العلمي والعملي للحياة الإنسانية للفقراء والأغنياء معًا.

كما أننا يجب أن نبتعد عن الاضطرابات الفكرية الجسيمة التي ظهرت مؤخرا في دول الربيع العربي التي عاشت تجربة  ديمقراطية قشرية، فوجدت نفسها بين طرفي صراع أحدهم يريد أن يحكم باسم الدين والمؤسسة المذهبية؛ وآخر يعتبر أن المؤسسة الدينية مؤسسة رجعية تخلفية يجب نبذها وإقصاؤها.

وبناء على ما سبق ربما نحتاج وقتًا طويلًا قبل أن نمارس الديمقراطية كما يفعل نظراؤنا في الدول المتحضرة، وهذا يحتاج إلى جيل أكثر وعيًا وانفتاحًا وتحضرًا.

الديمقراطية حلوة بس نفهمها.

عن الكاتب

عبد العليم الكاطع

مهندس عمارة، مهتم بالفكر وقضايا الشباب، مقيم في السويد.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس