ترك برس

طوال التاريخ الإسلامي، كانت الخلافةُ واحدةً من أهم الجوانب التي وحّدت العالم الإسلامي. بعد وفاة النبي محمد ﷺ، انتخب المسلمون رفيقه الصدّيق، أبا بكر، ليكون أول خليفة للمسلمين. كانت وظيفتُه كزعيمٍ يجمع بين السلطة السياسية على الدولة الإسلامية وبين التوجيه الروحي للمسلمين.

مع مرور السنين، أصبحت الخلافةُ بالوراثة، وذلك بدءًا من حكم الأسرة الأموية، التي تلاها العباسيون. وفي عام 1517، تم نقلُ الخلافة إلى العائلة العثمانية، لتحكم أقوى وأكبر إمبراطورية في العالم.

على مدى القرون التي حكم فيها السلاطين العثمانيون، كان يتمُّ في بعض الأحيان إهمال مفهوم الخلافة، واستخدامه في الأمور التي تستدعي الحاجة إليه. إلى أن جاء سلطانٌ أعاد إحياء أهمية وقوة الخلافة.

مع بداية القرن التاسع عشر، كانت الإمبراطورية العثمانية على حافة الهاوية، وكان من الواضح للمسؤولين أنها توشك على السقوط. احتاجت تلك الفترةُ شخصًا بالغًا في القوة والحكمة، كان ذلك السلطان عبد الحميد الثاني الذي قرر إحياء الإسلام في جميع العالم الإسلامي من خلال التركيز على مفهوم الخلافة من جديد، والقيام بدوره كخليفةٍ للمسلمين يعكس مسار دولتهم التي كانت في تراجع.

ربما لم يستطع السلطانُ عبد الحميد إيقاف الإمبراطورية عن سقوطها الحتمي، إلا أنه أعطى العثمانيين فترةً أخيرةً من القوة النسبية من أجل مواجهة التعدي الأوروبي والاستعمار.

الإصلاح الإسلامي

على مدار القرن التاسع عشر، كانت الحكومة العثمانية تحاول بائسةً إبطاء تراجع الإمبراطورية، بدءًا من محمود الثاني مرورًا بعهد عبد المجيد وحتى عبد العزيز. كانت محاولاتُ إصلاح الإمبراطورية في طليعة جدول أعمال الحكومة، وقد حاولت من خلال التنظيمات التي بدأت سنة 1839، إعادة بناء الدولة العثمانية على طول الخطوط الليبرالية الأوروبية. أما الإسلامُ (والدين بشكلٍ عام) كان قد أخذ مقعدًا في الصفوف الخلفية في الحياة العامة، حيث بدأت الأفكار العلمانية تؤثر على القوانين والممارسات الحكومية.

أثبتت هذه الإصلاحاتُ أنها غير مجدية لعكس اتجاه تراجع الإمبراطورية، فإن التركيز المتزايد على الهويات غير الإسلامية للمواطنين العثمانيين، زاد من تعزيز الأهداف القومية لدى شعوبٍ عثمانيةٍ عديدة، مما أدى إلى المزيد من الانقسامات في الإمبراطورية. وخلال عهد التنظيمات، خسرت الإمبراطورية كلًّا من صربيا واليونان وألاشيا ومولدوفا وأبخازيا وبلغاريا والجزائر، وذلك بسبب التعدي الأوروبي أو بسبب القومية.

قرر عبد الحميد اتخاذ نهجٍ مختلفٍ جذريًّا، وبسبب فقدان الأراضي الأوروبية التي خسرتها الإمبراطورية قبل حكمه أو في سنوات حكمه الأولى، أصبحت الإمبراطورية في عهده مسلمةً بأغلبيةٍ ساحقة. فطوال التاريخ العثماني، شكل المسيحيون جزءًا كبيرًا من السكان العثمانيين، وصل في بعض الأحيان إلى 80 بالمئة من السكان. إلا أن الإمبراطورية العثمانية خسرت خلال القرن التاسع عشر الأراضي ذات الأغلبية المسيحية في أوروبا، كما شهدت تدفقًا صافيًا للمهاجرين المسلمين القادمين إلى الإمبراطورية هربًا من الغزو التوسعي الجديد. أصبحت نسبة المسلمين تشكل ثلاثة أرباع السكان العثمانيين، فقرر عندها عبد الحميد التأكيد على الإسلام كعاملٍ موحدٍ ومهيمنٍ بين رعايا الإمبراطورية.

في حين كانت بقيةُ أوروبا تشهد حركاتٍ قوميةً قويةً في القرن التاسع عشر، كالسلافية والعموم الألماني اللذين يُعدّان أمثلةً على عوامل توحيد الناس الذين يتحدثون نفس اللغات ولديهم ثقافاتٌ مماثلة، كانت الإمبراطورية العثمانية كما هي دائمًا، متعددة الثقافات. فالأتراك والعربُ والألبان والأكراد والأرمن وكثيرون آخرون كانوا يشكلون الإمبراطورية. حاول عبد الحميد جعل الإسلام عاملًا موحدًا للمسلمين داخل وخارج حدود الإمبراطورية.

ولإبراز دوره كمرشدٍ أعلى للمسلمين في جميع أنحاء العالم، أولى عبدُ الحميد اهتمامًا خاصًّا بالأماكن المقدسة في مكة والمدينة، فبدأ ببرنامج البناء في تلك المدن، حيث تم بناء المستشفيات والثكنات والبنية التحتية في الحجاز للمساعدة في التجمع السنوي للمسلمين في مكة، الحج. كما تم تجديد الكعبة والمسجد الحرام مع نظم المياه الحديثة التي ساعدت في الحدِّ من شدة الفيضانات.

وفي عام 1900، بدأ عبد الحميد بمشروعه الأضخم، سكة حديد الحجاز. انطلقت السكةُ من إسطنبول وسافرت عبر سوريا وفلسطين والصحراء العربية، وانتهت في المدينة المنورة. كان الهدف الرئيسي من إنشائها ربطُ الأماكن المقدسة مع السلطة السياسية في إسطنبول بهدف حمايتها، بالإضافة لتسهيل الحج.

ولتعزيز أمن المدن المقدسة قرر عبد الحميد أن يجعل قياس عرض سكة حديد الحجاز أصغر قليلًا من السكك الحديدية الأوروبية، وذلك للتأكد من أن الغزو الأوروبي لن يدخل قطاراته إلى مكة والمدينة بسهولة في حال تمكنوا من وضع أيديهم على إسطنبول، التي كانت واقعةً تحت التهديد الأكبر.

المسلمون غير العثمانيين

طوال التاريخ العثماني، كانت هناك أمثلةٌ عن السلاطين الذين ساعدوا المجتمعات الإسلامية خارج حدود الدولة العثمانية، فعلى سبيل المثال، في القرن السادس عشر كانت البحرية العثمانية قوةً رئيسيةً في المحيط الهندي، فقامت بمساعدة المسلمين الذين يقاتلون الاستعمار البرتغالي بعيدًا مثل الهند وإندونيسيا.

اعتبر عبد الحميد أن عليه فعل الشيء نفسه في القرن التاسع عشر، خاصةً وأن أعدادًا كبيرةً من المسلمين في أفريقيا وآسيا كانت تحت الحكم الأوروبي. فقام بإرسال وفود إلى الممالك الإسلامية الأفريقية مثل زنجبار، كما قام بإرسال الهدايا إليهم. طلب عبد الحميد منهم الاعتراف بالخليفة كحامٍ ضد الإمبريالية الأوروبية. وأرسل وفودًا مماثلةً إلى المسلمين الذين يعيشون داخل الحدود الروسية والصينية.

في عام 1901، أرسل عبد الحميد أنور باشا، أحد مستشاريه، برفقة مجموعة من العلماء المسلمين إلى الصين. رحب الصينيون بهم ترحيبًا حارًّا لدى وصولهم إلى شانغهاي، وخاصةً الصينيون المسلمون المحليون الذين عاشوا في الصين منذ قرونٍ عدة. وساعد عبد الحميد في وقتٍ لاحقٍ بإنشاء جامعة إسلامية في بكين تحت اسم (جامعة الحميدية).

حتى في الصين، أراد عبد الحميد خلق شعورٍ بالانتماء والوحدة بين المسلمين، وذلك من خلال تعزيز مفهوم الخلافة وتعزيز دوره كخليفة للمسلمين. وقد أدت جهوده للاعتراف به خليفةً للعالم الإسلامي في صلاة الجمعة في المدن الصغيرة في جميع أنحاء افريقيا وحتى في المجتمعات الإسلامية الرئيسية في الهند والصين.

القضية الفلسطينية

في أواخر القرن التاسع عشر، بدأت الحركة القومية الصهيونية تتشكل بقوة بين اليهود الأوروبيين، حيث دعت الأيديولوجية الصهيونية إلى إقامة دولة يهودية في وطنهم القديم المزعوم، فلسطين. وعلى الرغم من تشتت اليهود في جميع أنحاء أوروبا، إلا أن القوة المالية والسياسية الكبيرة للعديد من العائلات اليهودية تمكنت من جعل الصهيونية قوةً رئيسية في أواخر القرن التاسع عشر.

طلب ثيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، بشكلٍ شخصيِّ ممن عبد الحميد الثاني، الإذن الخاص بالاستقرار في فلسطين مقابل 150 مليون جنيه إسترليني من الذهب كان بإمكانها أن تساعد العثمانيين على سداد ديونهم الهائلة. لم يكن هدف هرتزل العيش هناك تحت السلطة العثمانية، لكنه أراد بوضوح إقامة دولة يهودية قائمة على أراضي المسلمين (الأمر الذي حدث سنة 1948). أدرك عبد الحميد أن دوره كخليفة يتطلب منه حماية قدسية وسيادة أرض المسلمين، فأجاب هرتزل بما يلي:

"حتى لو أعطيتني ذهب العالم كله، ناهيك عن الـ150 مليون جنيه إسترليني من الذهب، فأنا لن أقبل بها على الإطلاق. لقد خدمت الأمة الإسلامية وأمة محمد لأكثر من ثلاثين عامًا، ولم ألوث صفحات آبائي وأجدادي السلاطين والخلفاء العثمانيين. لذلك، فأنا لن أقبل ما تطلبه مني".

حال عبد الحميد الثاني دون قيام منظمات صهيونية بشراء مساحاتٍ من الأراضي داخل فلسطين، مما كفل عدم جدوى محاولاتها لإقامة موطىء قدم لها فيها. وفي نهاية المطاف، سُمح للصهاينة بشراء الأراضي والاستقرار في فلسطين بعد انتهاء حكم عبد الحميد، وفي الوقت الذي كان فيه حزب الاتحاد والترقي وحركة تركيا الفتاة مسؤولة عن الإمبراطورية العثمانية.

ميراث

كان عبد الحميد الثاني آخر السلاطين العثمانيين الذين امتلكوا سلطةً وقوةً حقيقية. أطيح به سنة 1909 من قبل حركة تركيا الفتاة، التي كان أعضاؤها علمانيين ليبراليين غربيّي التعليم والثقافة، اختلفوا بشدة مع الاتجاه الإسلامي الذي سلكه عبد الحميد في حكمه للإمبراطورية بين عامي 1876 و1909. بعد الإطاحة به، اختير أخوه محمد رشاد كسلطان من قبل تركيا الفتاة، لكنه لم يمتلك سلطةً فعلية، فقد كانت الإمبراطورية تُدار من قبل ثلاث وزراء في حكومة تركيا الفتاة.

تم إدخال ثلاثة أشخاص آخرين في مكتب الخليفة: محمد الخامس، ومحمد السادس، وعبد المجيد الثاني، ولم تكن لأيٍّ منهم أيةُ سلطةٍ في الحكم. وفي عام 1924، ألغى البرلمان التركي الجديد الخلافة وتم نفي عبد المجيد وبقية أفراد العائلة العثمانية. وبهذا، يكون عبد الحميد الثاني السلطان الفعلي الأخير للعالم الإسلامي، وقد أيد في حكمه في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تقليد الخليفة القوي الذي بدأ مع أبي بكر سنة 632، وذلك قبل أن تطيح به عناصرُ ليبراليةٌ في الإمبراطورية.

توفي عبد الحميد في إسطنبول عام 1918 ودفن في ضريحٍ مع السلطان محمود الثاني وعبد العزيز بالقرب من ساحة السلطان أحمد في حي الفاتح.

 

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!