ترك برس

في أثناء عودة السلطان سليم الأول بعد فتح مصر، وحضوره صلاة الجمعة، قال الخطيب عند ذكر اسم السلطان "حاكم الحرمين الشريفين" فاعترض السلطان سليم على ذلك، وأمره بأن يقول "خادم الحرمين الشريفين".

يرجع اهتمام السلاطين العثمانيين بمكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس الشريف، أكثر اﻷماكن تقديسا عند المسلمين إلى أزمان بعيدة، فبينما كانت منطقة الحجاز لا تزال تحت حكم المماليك، بدأ السلطان محمد جلبي "محمد اﻷول" 1413- 1421، تقليد إرسال موكب "الصرة الهمايونية" إلى الحجاز.

كان ينطلق الموكب كل سنة من إسطنبول بصحبة موظفين رسميين إلى الأراضي المباركة محملا بالهدايا والأشياء القيمة من شمعدانات وستائر إضافة إلى هدايا لعلماء الحجاز وأموال لتوزيعها عى الفقراء.

كان بعض أفراد الشعب أيضا يرسلون الهدايا والصدقات إلى الحجاز مع موكب "الصرة الهمايونية" وكان لبعض الناس في إسطنبول فقراء باﻷراضي المقدسة يبعثون لهم خصيصا.

كما كان المتوجهون إلى مكة ﻷداء فريضة الحج من أهالي اﻷناضول يلتحقون بالموكب في الطريق، وكان السلاطين يوكلون من يؤدي عنهم فريضة الحج، وهو عذر شرعي بحكم انشغالهم بأمور الحكم وأحوال الرعية.

ومن المعتاد أن من يترأس الموكب هو وكيل السلطان، ويطلق عليه "أمين الصرة"، وينطلق الموكب من إسطنبول بمراسم ضخمة، وقد استمر هذا التقليد حتى عام 1916.

خادم الحرمين

بعد فتح مصر عام 1517 وتسلم مفاتيح مكة من أمير الحجاز، حمل السلاطين العثمانيون وبكل فخر لقب خادم مكة والمدينة، وفي طريق العودة بعد فتح مصر وأثناء صلاة الجمعة بالجامع الكبير في الشام، قال الخطيب عند ذكر اسم السلطان "حاكم الحرمين الشريفين" فقام السلطان سليم وسط الجماعة وطلب أن يصحح ذلك إلى "خادم الحرمين الشريفين" وليس حاكم، وحمل كل الخلفاء العثمانيين هذا اللقب وأعلنوه للدنيا في كل آثارهم.

وقد تجاوزت خدمات السلاطين العثمانيين للإسلام والحرمين الشريفين كل الخدمات التي قدمتها الدول اﻹسلامية والحكام المسلمين قبلهم باستثناء فترة الخلفاء الراشدين.

وعندما احضرت إحدى المكانس التي كانت تستخدم في كنس الأرض داخل الكعبة رفعها السلطان سليم اﻷول على رأسه وكأنها تاج. ومن هنا جاءت عادة وضع السلاطين العثمانيين من بعده ريشة فوق تاجهم.

ومن بعده السلطان سليمان القانوني، كانت خدماته للأراضي المقدسة مثل مكة والمدينة والقدس لا نظير لها، فقد قام بتعمير سقف الكعبة المشرفة ومآذن المسجد النبوي، وتجديد النقوش الزخرفية والداخلية في قباب المسجد، وأنشأ المحراب الأيمن في المسجد.

كان اﻹمام الحنفي لا يصلي في محراب رسول الله ﷺ، ويصلي في المحراب الآخر تبجيلا للنبي،فأمر القانوني بترميم المحراب الأصلي وتعليته، كما أمر بإنشاء ضرائح في منطقة مقابر الصحابة بجانب البقيع وجبل أحد.

وجدد القانوني مسجدي قباء والقبلتين، وأمر ببناء قبة فوق البيت الذي ولد فيه النبي ﷺ، وأرسل ثلاث ثريات لتضاء إحداها في ذلك البيت واﻷخريات في الكعبة المشرفة.

كما أمر بإنشاء أربع مدارس للمذاهب اﻷربعة في مكة المكرمة وأمر بإنشاء مجرى مياه إلى الكعبة يتم عمله من الفضة، ولاحقا أمر السلطان أحمد اﻷول ببنائه من الذهب، وجدد القانوني بئر زمزم وشيد حوضًا تجري فيه مياه البئر، ثم قام السلطان محمد الرابع بتشييد قبة فوقه، وأنشأ السلطان عبد الحميد اﻷول الغرفة المزينة التي كانت موجودة فوق بئر زمزم، وهدمت هذه الغرفة عام 1963.

أنشأت "هُرِّم سلطان" زوجة السلطان القانوني أماكن ﻹطعام الفقراء في مكة والمدينة، كما أنشأت مستشفى كبيرا في مكة يشبه مستشفى "حَسَكِة" الذي أنشأته في إسطنبول. 

أما ابنة السلطان القانوني "مهرماه سلطان" فقد قامت بإصلاح المجاري وإيصال المياه إلى مكة ومنطقة جبل عرفات. وواصل ابنه السلطان سليم الثاني أعمال الإصلاح والتشييد في مكة والمدينة وقام بإتمام عمل اﻷروقة حول الكعبة، وتولى المعمار سنان تنفيذ المشروع.

وكان السلطان يهدي كل من يتوجه للحج عكازا يصنعه بنفسه.

البناء الحالي للكعبة

في عام 1590، أرسل السلطان مراد الثالث، المنبر الحالي للمسجد النبوي من إسطنبول إلى المدينة والذي يضم 12 درجة من الرخام، وقام السلطان محمد الثالث بتجديد المئذنة الموجودة فوق باب السلام بالمسجد النبوي، وشيد قبة ومئذنة فوق البيت الذي ولد فيه النبي ﷺ، والذي تحول إلى مسجد بعد ذلك.

كان ستار الكعبة يُرسَلُ دائما من القاهرة، ولكن في عهد السلطان أحمد اﻷول بدأ إرسالها من إسطنبول في كل عام، وأنشئت لها ورشة خاصة بمنطقة بيلر بي. ويوجد حاليا في المكان نفسه مسجد بيلر بي المعروف في إسطنبول. كما كان الشمع الخاص الذي يضاء في الحرم الشريف أيضا يصنع هناك، وأرسل السلطان أحمد الأول قنديلين مرصعين باﻷلماس لتعليقهما في المسجد الحرام والمسجد اﻷقصى.

تعرض بناء الكعبة ﻷضرار كثيرة بسبب السيل، أما البناء الفخم الحالي للكعبة فقد أمر بتشييده السلطان مراد الرابع. وتخليدا لذكراه أطلق على أحد أبوابها الباب المرادي، والباب الذي أمر السلطان مراد الرابع ببنائه للكعبة من الذهب الخالص محفوظ اليوم بمتحف مكة المكرمة.

منع العثمانيون تشييد أي مبنى في مكة أعلى من الكعبة و من قبر النبي ﷺ، ولهذا السبب كان يمكن رؤية كليهما في السابق من بعيد بمنتهى السهولة.

 

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!