أحمد الهواس - خاص ترك برس

لم يكن انخفاض الليرة التركية نتيجة ضعف في الاقتصاد التركي أو نتيجة عدم استقرار سياسي , بل كان عملاً منظمًا يأتي في سياق الحرب على تركيا , والتي بدأت ملامحها منذ تظاهرات تقسيم 2013 , ولم تتوقف عند الانقلاب العسكري 2016 . فصول من حرب مستمرة ولكنها تتقلب بين مظاهر مختلفة , وأساليب شتى , وتقودها أطراف لم تعد خافية على أحد حيث اجتمع فيها الخبث الأمريكي والعداء الصهيوني والمال العربي , فضلاً عن الأطراف المتداخلة في هذه الحرب الشعواء أطراف داخلية وأخرى إقليمية !

المعركة الحقيقية بين تركيا بقيادتها الحالية والغرب , مشكلة تبدو مركبة ومعقدة في آن معًا , فتركيا جزء من حلف الناتو , والقوة الثانية فيه , ولكن دورها السابق في مواجهة الاتحاد السوفياتي قد انتهى – عملياً- منذ انهيار حلف وارسو , وهي الدولة المسلمة الطامحة لدخول الاتحاد الأوربي , فهي مقبولة غربياً مادامت تطبّق العلمانية السلبية تحت إشراف العسكر , علمانية تتخذ من حرب الدين سبيلاً ولا تكتفي بفصل الدين عن الدولة بل بفصل الدين عن المجتمع , وهي مرغوب بها إن بقيت تمثل الدولة الوظيفية في المنطقة , وكل حلمها أن تدخل الاتحاد الأوربي , ولكنها متخلفة اقتصادياً أو أنّها غارقة في الفساد , وتحتاج لمسكنات وجرعات اقتصادية حتى تظل في هذا النمط , ولا مانع من ديمقراطية تتحكم فيها الدولة العميقة بحيث تبقي التنافس الحزبي مفتوحًا ولكنها لا تغير في أساسيات وجود تركيا كدولة بهذا الشكل المراد لها وربما أسوأ منذ أن تمّ تكبيلها باتفاقية لوزان 1923 !

لقد شكل النهوض التركي قلقًا لدى الغرب , وكان مقبولاً في بدايته مادامت النهضة التركية محلية أو أنّها لا تتطلع لإعادة تركيا دولة كبرى في العالم أو أنّها تطمح لأبعد من ذلك , حتى جاءت ثورات الربيع العربي حيث بدت تتشكل صورة ما في ذهن الغرب تستجلب في ذاكرته الجمعية صراعًا امتد لعقود طويلة , فثمة بقعة تمتد من الأطلسي حتى البوسفور ستكون نمطًا واحدًا , أو بصورة أدق ستلعب عدة عوامل على إعادة تجميع بلدان تلك البقعة في أنموذج إسلامي , وسيكون هذا الفضاء "الإسلامي" منسجمًا في كل شيء , فكل ما يحتاجه للنهضة أنظمة حكم صالحة تعمل لرضاء شعوبها وليس لرضاء كفلائها , وهنا سيكون البحر المتوسط بحيرة  بين حضارتين خاضتا صراعًا طويلاً انتهى بتقسيم المنطقة بعد إلغاء نظامها السياسي الذي استمر اربعة عشر قرنًا, ولابدّ أنّ هذا التغيير يعني هدم البناء الرسمي العربي وكذلك الإقليمي , ليكون الغرب أمام بناء جديد يلبي طموحات أبناء هذه المنطقة التي فُرض عليها التقسيم والأنظمة المستبدة , وزرع في قلبها كيان غريب , فضلاً عن التخلف وضعف التنمية والحالة الاستهلاكية واالبطالة وامتهان كرامة الإنسان .

حين اندلعت ثورات الربيع العربي كان البديل الطبيعي للأنظمة المنهارة الإسلام أو ما يُطلق عليه حركات الإسلام السياسي , فهذه الحركات كانت "النظام" المستبعد والمحارب من تلك الأنظمة , وقد شكل النهوض التركي دافعًا قوياً للمطالبة بأنظمة تضع التجربة التركية أمام عينيها وتفيد منها .

لم يكن الموقف التركي الرسمي بعيدًا عن طموحات الثائرين العرب , فقد ساندت تركيا ثورات الربيع العربي ولكنها وقفت ضد التدخل العسكري في ليبيا لأنها رأت أنها ستكون حربًا من أجل الطاقة , وحين وصل الإخوان لحكم مصر قدّم لهم الرئيس أردوغان مجموعة نصائح وأهمها البدء بالترتيب الداخلي قبيل الانتقال للقضايا الخارجية , وألاّ يستعجلوا في ترسيخ النظام الإسلامي فهو "مسلم , يحكم بلدًا علمانياً" وهي رسالة واضحة أنّ الشعوب عاشت تحت ظل حكم علماني عسكري عقودًا طويلة أنظمة أفسدت الأنفس ونمّطت المجتمعات بوسائل مختلفة , وخاضت حربها الفعلية ضد الإسلاميين , ولهذا لابدّ من التدرج !

ثم جاءت الثورات المضادة وبدأت بالدولة العربية الأكبر"مصر" لتبدأ مرحلة أخرى , مرحلة رأى فيها كثير من المحللين أنّها تهدف لإعادة انتاج الأنظمة المتهاوية والمحافظة على البناء الرسمي العربي , وهذا يتطلب تأديب الشعوب الثائرة , وسحق الثائرين , صاحب هذه الثورات إعلام ضخم ممول خليجياً يعمل على شيطنة "الإسلام السياسي" ويوجه أسهمه نحو تركيا , ولم تكن تركيا بعيدة عن تلك الموجة التي ضربت بلدان الربيع العربي , فتوالت فيها القلاقل والمشكلات , فكانت اعتصامات ميدان تقسيم والتي روّج لها الإعلام العربي"المضاد"على أنّها ثورة ضد أردوغان , أو الصراع مع التنظيم الموازي المدعوم أمريكياً , كذلك التفجيرات التي حصلت في المدن التركية سواء من قبل داعش أو البككا الإرهابي , والمحاولة الإنقلابية الفاشلة أو دعم قيام جيب كردي بقيادة البككا في الشمال السوري بدعم أمريكي خليجي , والتلاعب في سوق البورصة وأخيرًا ضرب الليرة التركية!

إن الحقيقة التي يجب ألاّ يهرب منها المسؤولون الأتراك أن الحرب قائمة, ولكنها متنوعة الأساليب , وكل ذلك يأتي بسبب النجاحات الباهرة التي حققتها تركيا وتحولها أنموذجا بأعين المسلمين , ولاشك المنطقة العربية , فكان لابدّ من تدمير تلك التجربة سواء من الداخل أو الخارج , ومنعها من الوصول إلى 2023 حيث ستكون من أهم عشر اقتصادات في العالم .

فحرب الليرة لن تكون آخر الفصول , فهناك حرب أخرى تعمل على ضرب السياحة التركية بترويع السيّاح الخليجيين أن تركيا بلد غير آمن , فضلاً عن حرب إعلامية غربية تصوّر أردوغان دكتاتوراً قاتلاً  في أسلوب مشابه لما تعرض له السلطان عبد الحميد , هذه الأمور وغيرها تصاعدت عقب التسخين مع إيران , مشهد يؤكد على أن طبول الحرب التي تقرع مع إيران هي في الواقع ضد تركيا ,فمازالت إيران أداة خشنة بيد أمريكا سحقت من خلالها الثورة السورية , ودمّرت العراق , وأغرقت اليمن في فوضى , وجعلت لبنان إحدى ملحقاتها , ويمكن استخدام الصراع الوهمي معها للتغطية على  معركة أخرى في مكان آخر ..!

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس