عدنان عبد الرزاق - العربي الجديد

تصاعدت أزمة القس الأميركي، أندرو برونسون، الموضوع تحت الإقامة الجبرية في منزله بتركيا، إثر قرار محكمة إزمير واتهامه بالتجسس والتعاون مع منظمات تصفها تركيا بالإرهابية "كيان فتح الله غولن الموازي وتنظيم بي كي كي الكردي" وتوقيفه لنحو عامين.

لتصل وبعد وعيد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب الأسبوع الفائت، وتغريداته على "تويتر" بفرض عقوبات، وردة الفعل التركية التي أبداها بداية، الرئيس رجب طيب أردوغان، فور عودته من جولته الأفريقية "لن تجعل التهديدات تركيا تتراجع وبحال سير واشنطن بطريق العقوبات، فإنها ستخسر حليفاً قوياً".

تحولت التهديدات، أو بعضها على الأقل، إلى واقع على الأرض، وفرضت واشنطن عقوبات على وزير العدل عبد الحميد غول ووزير الداخلية سليمان سويلو، ما يعني بداية طور جديد بالعلاقات، تبقى نهايته مفتوحة ومتعلقة بمدى استيعاب تركيا الصدمة والتعامل بدبلوماسية لامتصاصها، أو الرد بالمثل، كما بدأ يرشح عن مسؤولين بأنقرة، خاصة أن واشنطن، تماطل منذ سنوات بالتعاون مع تركيا، بملف فتح الله غولن المتهم بالتحضير وإدارة الانقلاب الذي ضرب تركيا منتصف عام 2016.

قصارى القول: على الأرجح، أن تضغط الولايات المتحدة باتجاه تركيا، وللحد الأقصى بحال واصلت تركيا سياسة "الندية"، ليس لأن نائب الرئيس الأميركي مايك بنس، والمعروف بتوجهاته الدينية المتطرفة، قد توعَّد تركيا بحال عدم الإفراج عن برونسون" استعدوا لمواجهة التداعيات، الولايات المتّحدة ستفرض عقوبات كبيرة على تركيا إلى أن يتم إطلاق سراحه" بل ولأن ثمة تراكمات تشكلت لدى إدارة الرئيس ترامب على الأقل، مذ قالت أنقرة "لا" بأكثر من ملف، ربما الكردي والسوري بعضه، وأوغلت بعلاقاتها مع روسيا الاتحادية، لتصل لاستيراد منظومة صواريخ "الأس 400" بل والتوقيع على إقامة مفاعل نووي.

لأن الاقتصاد وجه السياسة الآخر، بل وفي الغالب محركها، ولأن تركيا تسعى لتحقيق حلم مئوية تأسيس الجمهورية عام 2023 وعلى الصعيد الاقتصادي أولاً، عبر دخولها نادي العشرة الكبار، سنأتي على بعض الآثار الاقتصادية، فيما لو تصاعدت الأزمة بين واشنطن وأنقرة، وما هي الخيارات أمام تركيا.

من الوهم ربما، تجاهل دور العقوبات الأميركية دولياً، ولعل فيما حلّ بالروبل الروسي أولاً والدينار الإيراني الآن، دليلاً على الأثمان التي يمكن أن يدفعها أي اقتصاد، تضعه الولايات المتحدة "في رأسها" وها هي الليرة التركية وبعد ساعات من إعلان العقوبة على الوزيرين التركيين، تهوي إلى ما دون 5 ليرات أمام الدولار.

ولا يمكن القياس هنا، على مدى تأثر العلاقات المباشرة بين تركيا والولايات المتحدة، على حصة واشنطن من الصادرات التركية التي لا تزيد عن 5% من صادرات تقترب من 160 مليار دولار، أو حجم التبادل الذي لا يرقى لـ 18 مليار دولار. ولا حتى على حجم الاستثمارات التركية بالولايات المتحدة التي لا تزيد عن 700 مليون دولار.

كما برأينا، من التغرير، مقارنة تلك الأرقام بعلاقات تركيا مع روسيا، التي يقترب حجم التبادل التجاري معها من 35 مليار دولار، أو اعتماد تركيا على الغاز الروسي بأكثر من 55% من استهلاكها، بل ولا حتى على تنامي العلاقات بعد أزمة إسقاط الطائرة الروسية بنوفمبر 2015 وتسارع تنفيذ مشروع السيل التركي وصفقات الأسلحة والمفاعل النووي "آك كويو" بمدينة مرسين على البحر المتوسط.

فالقصة على ما نحسب، تقاس وفق ما أفرزته المرحلة من اصطفاف أو تكتلات، وربما وليس من مبالغة بالتوصيف "من ليس معنا فهو ضدنا" ولعل "حكاية القس الأمريكي" هي برمتها ذريعة، وجدتها واشنطن مناسبة، لتصفي الحساب مع أنقرة، بعد استمالتها باتجاه روسيا، رغم أنها العضو الفاعل بحلف الشمال الأطلسي المناوئ.

ما يعني واقعياً، أن تركيا أمام خيار صعب اليوم، إذ لا يمكنها التخلي عن علاقاتها المهمة والاستراتيجية مع الولايات المتّحدة الأمريكية وما يجره ذاك التخلي من قلق وأثمان وتأخير للطموحات، وبالآن ذاته، لكن لا يمكن لأنقرة، وفق السياسة التي خطها الرئيس أردوغان، أن تقبل بأن تكون تحت التهديد الدائم من الحليف المفترض، فضلاً عن أن تكون مطالبة دوماً بتقديم التنازلات دون الحصول على مقابل يأخذ بعين الاعتبار مصالحها.

نهاية القول: ربما الإجابة الأسهل أو الانفعالية، على كل تلك التساؤلات، أن نقول إن تركيا ستستمر بالتصعيد، لطالما لديها خيار "الحضن الروسي" بل وثمة مؤشرات على "حسن البديل" سواء جراء الجوار الجغرافي أو تنامي التجارة والعلاقات الاقتصادية والعسكرية، أو حتى الآفاق البعيدة بتقوية تحالفات روسيا، والدخول بـ "مجموعة بريكس" التي طلب أردوغان من قادة دولها قبل أيام، السماح بدخول تركيا للمجموعة.

إلا أن هذا، وعلى الصعيد الاستراتيجي خاصة، سيضع تركيا ومصالحها، تحت رحمة روسيا "البوتينية" ويعزز من الهوة، مع الدول الأوروبية التي مازالت ترى بروسيا، الدولة الديكتاتورية الساعية للتمدد والتمادي باتجاه القارة العجوز.

إذاً، هل ستتعدى أنقرة "الفخ الأمريكي" كما تعدت ما سبقه "اسقاط السوخوي الروسية" وما تلاها وصولاً لـ"الانقلاب الفاشل" واستهداف اقتصادها. أم ستسقط بالأحضان الروسية.

عن الكاتب

عدنان عبد الرزاق

صحافي وكاتب سوري مقيم بإسطنبول منذ 2012


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس