أحمد الهواس - خاص ترك برس

مع كل تقدم للنظام وحلفائه على الأرض السورية، تصدر دعاوى من هنا وهناك أن إعادة تأهيل النظام وتعويمه دولياً يحتّم عليه قطع العلاقات مع إيران، وإخراجها خارج سورية! وكأنّ إيران هي عدو أمريكا وإسرائيل، ووجودها في سورية يعني نهاية الكيان الإسرائيلي من المنطقة إلى الأبد!

طرحٌ سواء جاء من أمريكا أو من أحد الأنظمة العربية الوظيفية، يعبّر عن أمر واحد: أنّ دماءَ السوريين لا قيمة لها، وهذه مكافأة العالم المتحضر للنظام المتوحش بالقضاء على الثورة التي كان يمكن أن تغير قواعد اللعبة في المنطقة وفي العالم، ويقدّم الشكر لإيران لأنّها بذلت ما تستطيع لإنهاء الثورة، ولا بدّ أن تعود وتلعب الدور نفسه في الصراع الوهمي، وأن خروجها يعني بقاء النظام الذي قاتلت من أجل بقائه!

لقد شكلت الثورة السورية فرصة لفهم طبيعة الصراع في المنطقة، وعن التحالفات التي - كنّا نخالها صراعات – قبل الثورة، ومنها التحالف العضوي بين أمريكا وإيران، وهو بالقطع تحالف مع إسرائيل! تحالف لم يبن على المصالح فقط، فلربما تختلف المصالح بين الثلاثة، ولكنه بني على بعد تاريخي، وتحديد العدو، وفهم عقدي لطبيعة الصراع، ثلاثية شكلت الأسس التي يقوم عليه هذا التحالف.

يقول "علي شريعتي" في كتابه التشيع العلوي والتشيع الصفوي: (من القضايا الواضحة وجود نحو ارتباطٍ بين الصفوية والمسيحية، حين تضامن الإثنان لمواجهة الإمبراطورية الإسلامية العظمى التي كان لها حضور فاعل على الصعيد الدولي إبّان الحكم العثماني، وشكّلت خطرًا جدياً على أوروبا، وقد وجد رجالات التشيع الصفوي أنّه لا بدّ من توفير غطاء شرعي لهذا التضامن السياسي، فعمدوا إلى تقريب التشييع من المسيحية، وبهذا الإطار عمد الشاه إسماعيل الصفوي إلى استرضاء المسيحيين من خلال دعوتهم للهجرة إلى إيران).

لا شك أنّ التاريخ عظة الأذكياء، ولا شك أيضًا إن إغفال البعد العقدي في الصراع الحالي قد جعل الصراع السياسي طاغياً أو مسيطرًا على المشهد، صراع استخدم الإعلام - وهو السلاح الأخطر في التأثير على العقول - وسيلة في توجيه الرأي العام حول صراع مفترض لا أساس له من الصحة.

وهذا ما أفسح المجال للمحليين – البعيدين عن فهم الرابط العقدي بين إيران وأمريكا - أن يذهبوا بعيدًا مع صراع المصالح واختلاف السياسات، وهي أمور ممكنة الوقوع بين أقرب الحلفاء، وليست ثوابت – استراتيجيات - حتى نؤسس لمفهوم أصبح يردد صبح مساء "الصراع الأمريكي الإيراني".

أمريكا أحرص على إيران من الملالي أنفسهم، فهي أي إيران – الدولة منذ إنشائها الحديث 1925 وهي ذراع الغرب -  في مشهد يعيد تعاون الصفويين مع البرتغاليين ضد العثمانيين، ومع أوروبا في فكّ الحصار عن فيينا في القرن السادس عشر الميلادي!

يقول د. علي الوردي في كتابه لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث:

(في السنوات الأخيرة من القرن السادس عشر الميلادي أوفدت بريطانيا إلى إيران السير أنطوني جيليري، وأخوه السير روبرت، وكان معهما رجل خبير في صبّ المدافع، وقد استعان الشاه "إسماعيل الصفوي" بهذا الرجل لتجهيز جيشه بالمدافع القادرة على مواجهة المدافع العثمانية التي كانت في ذلك القرن أعظم المدافع في العالم على الإطلاق، وفي عام 1604 بدأ الشاه بشن غاراته على التخوم العثمانية).

إن عدم دراسة تلك المرحلة التاريخية، وفهم طبيعة الصراع، ومن هم حلفاء الأمس وهم في الواقع حلفاء اليوم، قد خلّف أجيالاً مفرّغة من تاريخها، والمشكلة هنا فينا وفي ذاكرتنا المثقوبة، أو كما يقول المستعرب الفرنسي جاك بيرك: العرب أصحاب ذاكرة مثقوبة كقطعة الجبن الفرنسي!

إن أي دراسة للحالة بعيدًا عن البعد العقدي في كل صراعٍ، لهي رؤيةٌ قاصرةٌ، وتذهب حيث يريد القوي، والقوي هنا هو المسيطر على العقول ويملك القدرة على توجيه الرأي العام حيث يريد، والأصعب أنّه يوجه رأي المظلوم!

ما يُشاع عن أنّ ثمة عرضًا قد قُدّم للنظام السوري بأنّ قطع العلاقات مع النظام الإيراني سيؤدي إلى إعادة تأهيله، عرضًا أمريكياً، وقبل ذلك كان ثمة عرضٌ سعوديٌ يحمل العناوين ذاتها. عرضان أو لنقل عرض واحد، فأمريكا هي صاحبة القرار في الشأن الدولي، والأنظمة العربية أنظمة وظيفية تُنفذ ما يملى عليها، ولكنّ هذا العرض – بعيدًا عن غاياته التي سنمرّ عليها ونفندها – يؤصلّ لأمر غاية في الأهمية، ألاّ وهو: إن قتل مليون سوري، وتهجير سبعة ملايين لا قيمة له أمام إذا كان القاتل ينفذ ما ترضى عنه أمريكا، أو أنّها تسقط أهمّ مادة في القانون الجنائي الدولي: الجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم! وهذا يعني أنّ أمريكا هي القانون وهي من تحدد شكل الجريمة ونوعها ومتى تعفو، وتمنح صك الغفران للمجرمين، ما دام المقتول مسلمًا!

إنّ الحديث عن إخراج إيران وقطع العلاقات معها، لعبة جديدة من قبل أمريكا، فإيران جزء رئيس من حلف لا انفكاك له مع أمريكا وإسرائيل، وهي دخلت سورية مع أذرعها بأمر أمريكي، وارتكبت مجازرها بحق السنة في سورية برضاء وغطاء أمريكا، ولو أرادات أمريكا هزيمة إيران لسلّحت الفصائل الثورية السورية، وليس تصنيفها إلى متشددة ومعتدلة، ومقاتلة من تراه إرهابياً، وترك إيران وأذرعها!

إيران ستخرج بعد أن أدّت المطلوب منها، ولكن ظلالها ستبقى على الأرض، ومن ينظر الآن للساحة السورية يرى حجم التشييع الذي يجري على السوريين، فضلاً عن تجنيس عشرات الآلاف من الشيعة القادمين من خلف الحدود، ناهيكم عن الصراع المجتمعي الذي ينذر بتفجر الأوضاع في أي وقت، ويبقي باب الصراع مفتوحًا، بعد أن أصبح بديلاً للمواطنة!

هذا دور إيران كما كان في العراق بتنسيق عالٍ مع أمريكا، وباعتراف الأمريكان أن اثنين وثلاثين ألف موظف في العراق من أصول إيرانية، فضلاً عن السيطرة المذهبية، وتحقيق مصالحها بجعل العراق جزءًا من إيران، وتدمير مدن السُنة، وجعل السُنة أقلية مستضعفة في العراق، ولا بد لأي فصيل سني أن يعلن "تشيعه السياسي" حتى يكون له نصيب في الحياة السياسية في العراق!

فالمتحدثون عن إخراج إيران يعلمون يقينًا أنها ستخرج عسكرياً، ولكن مقابل بقاء إيران المذهب والثقافة والمصالح الاقتصادية!

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس