د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس

خلال السّنوات الأخيرة أضحت الجامعات التّركية، الحكوميّة منها والخاصّة تُشكل مركزَ جذب كبير للطّلاب العرب، وقد ساعد على ذلك عدّة عوامل من أهمّها تحسّن مستوى أداء الجامعات التّركية وتقدّمها في التّرتيب ضمن الجامعات العالمية، وكذلك التّسهيلات المهمّة التي تمنحها الجَامعات التركيّة للطّلاب الدّارسين في رحابها. بيد أنّ الملاحظ أنّ الطّلاب العَرب يركّزون في دراستهم على الطبّ والصيّدلة والهَندسة وعلوم الطّيران ... ويُعرضون بشكل شبه كامل تقريبًا عن دراسة العلوم الإنسانيّة مثل الأدب والتّاريخ والجغرافيا والعلوم السّياسية والعلاقات الدّوليّة...، رغم ما لهذه المجالات من أهمّية بالغة. فهل لهذه الظّاهرة من أسباب؟ وما هي انعكاساتها على علاقة العرب بالأتراك تاريخًا وواقعًا؟ 

عندما كنت طالبًا في جامعة اسطنبول قبل عدة سنوات زُرت مع صديقي التّونسي السّفارة التّونسيّة في أنقرة لقضاء بعض الشّؤون، وسألني أحد الموظّفين هناك عن مجال دراستي فأجبته بحماسٍ أنّني أدرس التّاريخ العثماني، فردّ مازحًا- وكان كلامه ينطوي على قناعةٍ تُوجد لدى أغلب العرب: ولماذا تدرسُون في هذا المجال؟ هذه دراسة لا تغني من جوعٍ ولا مستقبل فيها، ألم يكن أجدر بكُم أن تدرسُوا الطبّ أو الهندسة أو أيّ مجال علميّ آخر؟     

ما سمعناه من جواب يلخّص في الحقيقة نظرة الإنسان العربيّ إلى دراسة العُلوم الإنسانيّة بشكل عامّ، فهو مجال لا مستقبل فيه، ولا مُستقبل له حسب اعتقاده. وأغلب الطّلاب الذين يذهبون اليوم إلى تركيا للدّراسة يبحثون عن مكان في الشّعب العلميّة، وقليل جدّا منهم من يُفكر في دراسة التّاريخ أو الأدب أو العلوم السّياسية والعلاقات الدّوليّة... ونعتقد أنّ ثمّة جُملة من الأسباب تكمن خلف هذه الظّاهرة منها: أنّ الجامعات العربيّة لا تُشجّع على دراسة العلوم الإنسانيّة، ونسبة البطالة فيها مُرتفعة جدّا، ويحتاج الطّالب المتخرّج أن ينتظر سنواتٍ قبل أن يبتسم له الحظ. 

ومنها كذلك أنّ الجامعات العربيّة عندما تنوي بعث الطّلاب إلى الخارج لدراسة اللّغات أو التّاريخ أو أيّ مجال من مجالات العُلوم الإنسانيّة، فهي تفكّر أول ما تفكّر في إرساله إلى أوروبّا أو أمريكا، بالرّغم من أنّ الحقيقة تقول بأنّ دراسة تاريخ العرب خلال القُرون الأربعة الماضية لا يُمكن أن يتمّ بدون معرفة الوثائق العثمانيّة وإتقان اللّغة التّركية. وهذا يُحيلنا إلى ضعف الوعي بأهمّية الدّراسات العثمانيّة وتواصل عُقد "الاحتلال العثمانيّ" وعدم القُدرة على التخلّص من قناعات خاطئة سكنت الوعي العربي لعقود من الزّمن. 

وممّا يؤسف له أنّه، في مقابل ما نلاحظه من إقبالٍ مُتزايد على دراسة هذه المجالات من قبل البَاحثين الأوروبيين والأمريكان وحتّى اليابانيين، يُوجد عزوف شبه كامل من قبل الطلاّب العرب. ولنتخيّل أنّه طوال سنوات دراستي في جامعة إسطنبول لم أُصادف في الجامعة من بلدان الخليج العربيّ سوى طالب سعوديّ واحدٍ، ومن بلدان المغرب العربي سوى بضع أفراد لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة، والأمر نفسه بالنّسبة إلى مصر والعراق وبلاد الشّام. ولا أعتقد أنّ الأمر تغير كثيرًا خلال السّنوات القليلة الماضية لأنّ القناعات لم تتبدّل بعد.

والسّؤال المطروح؛ كيف يمكن أن نفهم تاريخنا في علاقته بتُركيا إذا كنّا لا نفهم اللّغة التي كُتب بها هذا التّاريخ، ولا نستطيع فكّ رموز الوثائق المدوّنة باللّغة العثمانيّة؟ كيف بإمكاننا أن نفكّ رُموز مئات آلاف الوثائق التي يحتضنها اليوم الأرشيف العثماني في اسطنبول إذا كنّا لا نولي أيّ اهتمام بالأدوات التي بها نسبرُ أغوارها، وإذا كنّا بعدُ مسكونين بمفاهيم وأحكام مُسبقة عفَا عليها الزّمن؟ كيف للمرء أن يتخيّل متخصّصًا في التّاريخ الفرنسي مثلاً وهو لا يعرف اللّغة الفرنسية؟ وكيف له أن يتخيّل متخصّصا في التّاريخ البريطاني وهو لا يفهم شيئًا من اللّغة الانكليزية؟  

والأمر نفسه ينطبق على العلوم السّياسية والعلاقات الدّولية، فهذا مجال واسع وحيوي وحسّاس، والمتخصّصون العرب في المجال التّركي قلّة قليلة، ومن لا يُتقن اللّغة التّركية ولم يَدرس التّاريخ السّياسي التّركي، ولا يفهمُ السّاحة السياسيّة التّركية عن قرب من خلال صُحفها ومجلاّتها وقنواتها التّلفزيونية لا يُمكن أن نُطلق عليه متخصّصًا مهما اجتهد، فاللّغة هي الأداة الأهم لفهم أيّ واقع وأيّ مجتمع من المجتمعات. 

نضيف إلى كلّ هذا ضعف الإقبال على الدّراسات الأدبية في الجامعات التّركية من قبل الطّلاب العرب، مع أنّ التّعمق في دراسة اللغة التركيّة والأدب التّركي يُعد طريقًا لا غنًى عنه من أجل العُبور إلى فهم الواقع التّركي بأكثر عمق، فالأدب مرآة عاكسةٌ لأفكار المجتمعات وقَناعاتها ومشاعرها وطريقة نظرتها للأشياء من حولها. فإذا كانت دراسة التّاريخ تمكّن من فهم الماضي، ودراسة العُلوم السّياسية تمكّن من تحليل الحاضر والتّعامل معه بالطّريقة المناسبة فإنّ دراسة الأدب تنفذُ إلى أعمق النّفوس وتسبر أغوار المشاعر فتمكّننا من الاطلاع على حقيقة أيّ مجتمع من جميع جوانبه.             

  نخلص إلى أنّ هذا العُزوف الواضح من قبل الطّلاب والبَاحثين العَرب عن وُلوج ساحة العلوم الإنسانيّة في تركيا، وإهمال الجَامعات العربيّة التّعامل مع نظيراتها التّركية والتّعاون معها تعاونًا مثمرًا بعيدًا عن أيّة حسابات سياسيّة وإيديولوجية أفرزَ مجموعةً من النّتائج السلبيّة، أهمها افتقاد السّاحة السياسيّة والفكريّة العربيّة لمراكز بحث متخصّصة في الشأن التّركي بالمعنى الحقيقيّ للتّخصّص، وكذلك اسمرار غموض "العَالم التّركي" بالنّسبة إلى العَرب، وطُغيان مشاعر التّوجس والشّك مما حال دون عقد تعاون نلمس ثمارَه في الواقع الفكري والثّقافي. كما أنّ من سلبيّات هذه القطيعة المعرفيّة، إن جاز لنا التّعبير ضعف حركة التّرجمة من التّركية إلى العربيّة بالمقارنة مع ما تتمّ ترجمته من اللّغات الأخرى وخصوصًا الفرنسيّة والانكليزيّة.

عن الكاتب

د. مصطفى الستيتي

باحث متخصص في التاريخ العثماني.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس