د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس

تتسارع الأحداث في ليبيا، وتنذر بتطوّرات خطيرة يصعب التنبؤ بمآلاتها. ويسعى الجنرال المتقاعد خليفة حفتر للسّيطرة على العاصمة طرابلس قبل نجاح أيّ تحرك تركيّ مُستغلاّ الدّعم متعدّد الأطراف العربي (مصر، الإمارات، السّعودية) والدّولي (فرنسا وروسيا وإيطاليا....). وفي المقابل تزايدت التّحركات التّركيّة بهدف التّدخل عسكريّا وإنقاذ العاصمة طرابلس. وفي هذا الإطار جاءت زيارة الرئيس التّركي أردوغان إلى تونس رفقة وفد عسكري واستخباراتي رفيع المستوى للتشاور مع الجانب التّونسي، وجاءت كذلك الاتّصالات التّركية اللّيبية المتواصلة، وآخرها طلب الحكومة اللّيبية وكذلك السّفير اللّيبي في أنقرة دعمًا بريّا وجويا وبحريّا من الحكومة التركيّة.    

هذه التّطورات والتّحركات تعيد إلى الأذهان ما حدث لقطر في صيف عام 2017م عندما ضُرب الحِصار عليها فجأةً من قبل أربع دول عربيّة هي السّعودية والإمارات والبحرين ومصر ثم تبعتها دول صغيرة أخرى. وطُبّق الحصار على قطر بزعم أنّها تهدّد السّلم في المنطقة وتحرّض على الإرهاب وتؤوي الإخوان... وقد أكّدت تقارير وتصريحات رسميّة في وقت لاحق أنّ نية هذه الدّول كانت غزو قطر والاستيلاء على ثرواتها، والقضاء على نظام الحكم القائم فيها، وبالتّالي حرمان تركيا من حليف قويّ في المنطقة وقف إلى جانبها وساندها دون تردّد في محنتها إبّان محاولة الانقلاب الفاشلة في صيف 2016م.        

لم تنتظر تركيا كثيرًا لتُعلن مساندتها الكاملة والمطلقة لدولة قطر سياسيّا واقتصاديّا بل وعسكريًّا كذلك. رفضت تركيا الحصار وأقامت جسرا جويًّا لتزويد السّوق القطرية بما تحتاجه من سلع وبضائع، وانعقد البرلمان على عجلٍ لاستصدار تشريع يجيز لتركيا نجدة قطر عسكريًّا والوقوف إلى جانبها في محنتها. وتمّ ذلك بالفعل، وتمكّن التّدخل التّركي السّريع في تلك المرحلة الحاسمة من إحباط جميع المخطّطات التي كانت تستهدف أمن قطر واقتصادها وسيادتها. 

ما يحدث في ليبيا اليوم شبيه إلى حدّ بعيد بما حدث قبل ثلاث سنوات مع قطر، لكن الفرق أنّ الأمر لا يتعلّق هذه المرة بحصار بل بحرب قائمة بالفعل، وتهديد مباشر بهدف تدمير حكومة شرعيّة معترف بها دوليًّا، كما أن الأطراف المتدخّلة في هذه الأزمة كثيرة بما في ذلك الأطراف التي حاصرت قطر من قبل، ونقصد هنا تحديدًا السّعودية ومصر والإمارات. ولا يخفى أنّ ما يحصل في ليبيا هو بشكل من الأشكال امتداد للصّراع القائم على عدة مستويات بين حلف قطر - تركيا من جهة وحلف السّعودية الإمارات مصر من جانب ثانٍ، بالإضافة إلى قوى أخرى دولية كثيرة تدعم الحلف الدّاعم لحفتر. ولا يخفى أنّ تركيا نفسها تضّررت كثيرًا من الحلف المعادي لها ورأينا كيف أنّ الإمارات العربية دعمت بقوة ماليًّا الانقلاب الذي استهدف الرّئيس التركي في يوليو 2016م، وكيف أنّ السّعودية باغتيال جمال خاشقجي في قنصليّتها في اسطنبول عام 2018م كانت تسعى إلى هزّ صورة تركيا من الدّاخل واعتبارها بلدًا غير آمن وغير قادر على حماية حياة الإعلاميين والمثقّفين على أراضيها.         

أمّا السّيناريوهات المطروحة في علاقة تركيا مع الأزمة في ليبيا فيمكن أجمالها في ثلاثة أشكال: 

السّيناريو الأول: تمكُّن الجنرال خليفة حفتر من الدّخول إلى طرابلس قبل وصول الدّعم التّركي، وهذا سوف يعقّد الأمور أكثر لأنّ قوات حكومة الوفاق سوف تضطر للتّصدي والقتال، وبالتالي سوف تكون الخسائر البشريّة كبيرة لأنّ العاصمة طرابلس مكتظّة بالسّكان، وسوف يضطر السّكان للجوء إلى تونس المجاورة. وفي هذه الحالة لن يكون للتّدخل التّركي النّتائج المنتظرة منه. بل إنّ أيّ تدخّل بعد ذلك سوف يعقّد الأمور أكثر ويفاقم الأزمة. لكن مع ذلك تركيا لن تبقى مكتوفة اليدين لأنّ مصالحها في ليبيا كبيرة وسوف تكون مهدّدة. وسوف تضغط من أجل التّوصل إلى حلّ يراعي مصالحها الحيويّة والاقتصاديّة.       

والسّيناريو الثّاني: والأخطر، رغم أنّه يعتبر مستبعدًا نوعًا ما فهو تزايد التّدخل العسكري الرّوسي دعمًا لحفتر في تنسيق مع مصر بالأساس، وتحوّل السّاحة الليبية إلى ما يشبه سوريا جديدة. وهذا السّيناريو سوف لن يدمّر ليبيا فقط بل قد يلقي بكرة اللّهب إلى الدّول المجاورة بما في ذلك تونس والجزائر. ونحن نعلم أن روسيا لا تنظر بعين الرّضا إلى توجّه شُعوب هذه المنطقة نحو التحرّر، وهي تقف بشكل واضحٍ إلى جانب الأنظمة الدّكتاتوريّة، وتجد دعمًا قويّا في رؤيتها هذه من قبل الأنظمة الاستبدادية العربيّة. لكن روسيا في الوقت نفسه قد لا تغامر بتخريب علاقاتها مع تركيا وتدخل معها في نزاع هو لا يعنيها بشكل مباشر، وبعيد عن مناطقها الجغرافيّة. وهي حريصة على مواصلة التّنسيق معها في الشّأن السّوري وكسبها إلى جانبها في مواجهة التّغول الأمريكي. 

أمّا السيناريو الثالث والأقرب احتمالاً فيتمثّل في تأخّر الحسم العسكري من قبل اللّواء حفتر، ووصول الدّعم العسكري التّركي، وهذا بالطّبع سوف يقلب الموازين لصالح حكومة الوفاق الوطني لأنّ ما تُعاني منه قوات الوفاق حاليّا هو التّفوق الجوّي لحفتر، ووصول مضادّات جوية سوف يمكّنها من إبعاد مخاطر السّيطرة على طرابلس. وفي هذه الحالة قد يضطرّ حفتر بضغط من القوى الدّولية للجلوس إلى طاولة المفاوضات والتوصّل إلى حلّ سلمي للأزمة، خاصة إذا علمنا أنّ هذه القوى حريصة كلّ الحرص على أخذ نصيبها من الثروة اللّيبية، ومنع تدفّق مزيد من اللاجئين إلى أراضيها، وهي ذاتها تعاني أصلاً من مصاعب اقتصادية واجتماعيّة جمّة. كما أن تقارب وجهات النّظر التّركية والتونسية والجزائرية بشأن الأزمة في ليبيا، ورفض التّدخلات الأجنبيّة ودعم حكومة السّراج المعترف بها دوليّا يجعل من مهمّة تركيا أقرب إلى النّجاح.              

عن الكاتب

د. مصطفى الستيتي

باحث متخصص في التاريخ العثماني.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس