محمد قدو أفندي أوغلو - خاص ترك برس

الدور التركي الآن وبعد التصعيد الخطير أو المسرحية الخطيرة كما يحاول البعض تسمية الأحداث الأخيرة، كيف سيكون أو من المفترض أن يكون؟

تركيا تتمتع بوضع سياسي حالي يختلف كثيرًا عن السابق، فسياستها الهادئة مع إيران أعطتها فرصة للتفاهم مع القوى الموالية لإيران داخل العراق أكثر مما كانت عليه ما بين 2003 و2017. ولكن في الوقت نفسه فإن هناك تقاطعًا كبيرًا بين المشروع الإيراني الذي يهدف إلى استغلال المنظمات الإرهابية كأدوات في الصراع، ومنها حزب العمال الكردستاني (بي كي كي) وبين المصالح التركية الاستراتيجية. ومن المعروف أيضًا ان الولايات المتحدة تستغل نفس الحزب في سياستها مع تركيا. ولكن حسب تقديري فإن مصلحة تركيا هي في استقرار العراق وإعادة بناء دولة عراقية صديقة لتركيا، وتفتح مع تركيا أبواب التعاون الاقتصادي والثقافي والاجتماعي والأمني، ولهذا السبب نحن مهتمون كثيرًا بتنمية هذا النوع من العلاقات.

إن احتفاظ تركيا بعلاقات طبيعية ومفتوحة مع كل من الولايات المتحدة وإيران في الوقت نفسه وكونها عضو في حلف الناتو، بالإضافة إلى كونها أكبر دول المنطقة وأكثرها تقدمًا اقتصاديًا وتكنولوجيًا، كل هذا يعطيها فرصة لأخذ دور كبير في إعادة بناء الوضع العراقي بالتعاون مع أوروبا والولايات المتحدة (كأعضاء في الناتو)، وكذلك بعلاقات سياسية غير عدائية مع إيران.

هذا البناء يمكن أن يتوجه بالمساعدة في إعادة بناء المنظومة الأمنية العراقية، وكذلك في المساعدة ببناء قاعدة صناعية تكاملية بين البلدين، بالإضافة إلى التطوير في مختلف الجوانب الاقتصادية من الزراعية والصناعية والتجارية، ناهيك عن ملف المياه الذي يعتبر حيويًا بالنسبة للبلدين.

إلا أن آفاق السياسة التركية في العراق مكبلة بتشكيك شعبي عراقي ناتج عن الدعايات المضادة التي تطلقها الدول المعادية لتركيا، والتي تروج لأطماع غير منطقية في ظل الوضع الدولي الحالي. ولكن مع الأسف تلك الدعاية غير المنطقية أخذت مداها في ظل غياب الإعلام التركي المضاد، الذي يبدو أنه موجه للداخل التركي وليس للشعب العراقي. ففي الوقت الذي تمتلك به إيران ودول الخليج عشرات بل مئات الفضائيات الموجهة للداخل العراقي، بالإضافة إلى دعم كبير لوسائل التواصل الاجتماعي المؤيدة لسياستهم ضد تركيا، لا تمتلك تركيا سوى فضائية عربية واحدة موجهة للداخل التركي أكثر من توجهها للشعوب العربية.

وبالإضافة للإعلام فلا زالت الرؤية الاستراتيجية غير واضحة ومكتملة تجاه العراق، بل غالبًا ما تكون مرتبطة بمناطق أخرى في المنطقة.

على العموم، أمام تركيا اليوم فرصة نادرة وإمكانيات عمل كبيرة، ولكنها تحتاج إلى أعداد أكثر، كما تحتاج إلى ترسيخ علاقاتها الاجتماعية والثقافية التي تأثرت كثيرًا نتيجة لانفراد إيران بالملف العراقي الداخلي.

ما هي أبعاد وأطر المصالح المشتركة بين الجارين تركيا والعراق؟

لو أردنا تفصيل المصالح المشتركة بين تركيا والعراق فعلينا أن نتحدث في إطارين:

الإطار الأول هو الأمن المشترك:

وتتركز أهميته فيما يحدث في شمال العراق ومحافظة نينوى، بالإضافة إلى إقليم "كردستان" وتغلغل حزب العمال الكردستاني (بي كي كي) ليس فقط عسكريًا بل سياسيًا أيضًا، وتمكنه من السيطرة على سنجار وبنائه علاقات قوية ومصالح مشتركة مع الفصائل الموالية لإيران وحصوله على الدعم المباشر منها. وهذا الدعم السياسي استهدف قوتين في تلك المنطقة. القوة الأولى هي المجموعة العربية السنية التي تمثل الأغلبية الأقوى مجتمعيًا والأضعف سياسيا في محافظة نينوى عمومًا وفي سنجار وما يحاددها. والقوة الثانية التي استهدفها تحالف حزب العمال مع الفصائل الموالية لإيران هي الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارزاني) وعلى الرغم من معرفة البارزاني بخطورة حزب العمال على مشروعه إلا أن الشعارات القومية الكردية التي يخدع بها حزب العمال الشعب الكردي تجعل حركة البارزاني ضد هذا الحزب محدودة.

ومن المتوقع أن يحصل مؤيدو حزب العمال في المجتمع الكردي واليزيدي على تمثيل سياسي في الانتخابات البرلمانية القادمة.

ولهذا فإن لتركيا مصلحة مباشرة في تقوية المجتمع العربي السني في محافظة نينوى وتمكينه من استعادة دوره في محافظة نينوى خصوصًا وفي العراق عمومًا. وعندها لن تحتاج تركيا إلى مجابهة حزب العمال في سنجار، بل سيتكفل المجتمع العربي السني بمجابهته لأن وجوده يتقاطع مع رؤية وتفكير هذا المجتمع.

كما أن على تركيا أن تستخدم نفوذها وعلاقاتها لتفادي أي صراع كردي عربي في المناطق المتنازع عليها بما يشتت قدرة الجهات الحليفة لتركيا ويعطي المجال للجهات المعادية بالاستفادة من هذا الصراع.

الإطار الثاني هو العلاقات العراقية التركية:

فمنذ عام 2003، وعلى أثر عدم مشاركة تركيا في الحملة الأمريكية ضد العراق، تم الترويج لحملات إعلامية ممولة استهدفت دور تركيا في المنطقة، ووصفته زورًا بالداعم للإرهاب، بينما روجت لإيران على أنها المنقذ والمخلص. ولم تقم تركيا بأي حملة إعلامية مضادة، وتركت حلفاءها يدافعون عنها وعن أنفسهم بامكانيات إعلامية ومعطيات بسيطة جدًا بالمقارنة مع إمكانيات الجهات الأخرى. ثم حدث الخلاف مع دول الخليج الذي زاد من الحملات الإعلامية ضد تركيا.

هذه الحملات الإعلامية أثرت على علاقات تركيا السياسية والاقتصادية مع العراق. وعلى الرغم من تحسن علاقة تركيا مع إيران في السنتين الأخيرتين إلا أن خطاب الأحزاب الموالية لإيران لم يتغير تجاه تركيا، ولا زال يتسم بالتشكيك والتحشيد الشعبي المضاد لتركيا.

أما إقليم "كردستان"، فعلى الرغم من العلاقة المتطورة لتركيا مع البارزاني، إلا أن شعارات الخطاب القومي الكردي لا زالت هي الغالبة، وهي في نتيجتها تنظر لتركيا كخصم.

وبالمقابل لم تقم تركيا بحملات إعلامية مضادة لتنمية خطاب المصالح المشتركة ولا القيم الدينية والاجتماعية المشتركة. ولهذا، فإن حزب العمال الكردستاني (بي كي كي) يجد لنفسه تأييدًا داخل المجتمع الكردي لأنه يخدع الشعب بشعاراته القومية.

أعتقد أن على تركيا استغلال علاقتها مع إيران، للضغط على إيران وحلفاء إيران في العراق لتغيير خطابهم ضد تركيا.

كما تحتاج تركيا لوسائل إعلام فضائية وحملات عبر منصات التواصل الاجتماعي العراقية لإيضاح المصالح المشتركة بين تركيا والعراق، وإيضاح موقف تركيا مما تشيعه الأطراف المعادية عن أطماع تركية غير منطقية في ظل الأوضاع الدولية الحالية.

أما على صعيد السياسة الدولية، فإن تركيا تتمتع الآن بوضع سياسي مختلف يقوم على سياستها الهادئة مع إيران من جهة، وعلاقاتها المباشرة مع الولايات المتحدة من الجهة الأخرى، بالإضافة لكونها أحد أبرز أعضاء حلف الناتو الفاعلين والقادرين على لعب دور أمني وسياسي في العراق بتفويض من حلف الناتو.

وهذا الدور يجب أن يتركز على تقوية شكل الدولة العراقية ومؤسساتها الرسمية من تدريب وتطوير ومنع كل المنظمات الإرهابية بجميع توجهاتها وأشكالها من استغلال الضعف الذي يمر به العراق لتهديد أمن دول المنطقة.

إن تقوية شكل الدولة العراقية يجب أن يضع في حسابه عدم التصديق بالفصائل التي تسيطر على مؤسسات الدولة وتتحايل على القوانين والمعايير الدولية في قمع الشعب العراقي ومنع العراقيين من إجراء انتخابات حرة ونزيهة بإشراف دولي تمكن الشعب العراقي من المساهمة ببناء دولته. وإذا كان العراق بحاجة للمساعدة الخارجية لتحقيق هذه الخطوة فإن تركيا ومؤسساتها المجتمعية قادرة على لعب دور كبير، لا سيما إذا حصلت على دعم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للقيام بهذا الدور.

فتركيا هي الدولة الأقوى تنظيميًا وتكنولوجيًا في المنطقة، وهي الأكثر معرفة بثقافة شعوب المنطقة وقادرة على المساعدة في تطوير وتقوية شعوب المنطقة. وبالنسبة لي شخصيًا فأنا أعرف أن هذا هو الفرق الجوهري بين دور تركيا ودور إيران. ففي الوقت الذي يعتمد فيه الدور الإيراني على الفوضى وغياب شكل الدولة الرسمي وعلى تنظيمات خارج الهيكلية الرسمية للدولة تكون أقوى من مؤسسات الدولة، فإن الدور التركي يعتمد على النظام والدولة القوية الصديقة التي تستطيع أن تحمي داخلها وتفتح المجال للعلاقات الاقتصادية والسياسية مع جيرانها. وإذا كانت إيران تستفيد من الفوضى فإن تركيا لا تستطيع أن تستفيد إلا من النظام والاستقرار.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس