محمد قدو أفندي أوغلو - خاص ترك برس

منذ خمسينات القرن الماضي، وبعد إفشال ثورة مصدق بالعملية الاستخباراتية الامريكية البريطانية والتي سميت بـ(أجاكس)، وحتى عام 1979، كانت إيران حائط الصد الأول ضد التوسع السوفيتي الشيوعي في الجنوب ونحو المياه الدافئة والمنطقة العربية بصورة عامة أيدولوجيا ونفوذا، بالرغم من أن المنتمين لحزب تودة الشيوعي الإيراني في تلك الفترة كان قد تجاوز المليون من الأعضاء الفعليين بالإضافة إلى مثليها من المؤازرين للحزب.

ونحن إذ نذكر هذه الحقائق، نوضح قدرة حكام إيران السياسين على تلافي كل هولاء الملايين والمؤازرين للسوفييت والمتخاصمين مع أمريكا، للحفاظ على أقوى علاقات ثنائية لأمريكا في الشرق الأوسط ربما كانت قد تجاوزت علاقة الأخيرة بالكيان الإسرائيلي.

في هذه الفترة، ورغم ما طرح من تكهنات عديدة حول علاقة إيران الرسمية مع أمريكا بعد مقتل سليماني، وتأثير تلك الأحداث على مجمل العلاقات الامريكية مع كل من إيران والعراق، وما يترتب عليها من تغييرات جوهرية في الخارطة السياسية بالمستقبل المنظور لكل المنطقة بصورة عامة والعلاقات التركية العراقية بصورة خاصة، فإن الأحداث الأخيرة التي حصلت في ساحة الخصام الوحيدة بالأراضي العراقية لم تكن معزولة عن تغييرات عالمية أو تغييرات في التكتيك الأمريكي لإدامة سيطرتها على العالم كقطب واحد بدون منافس.

في هذه الفترة وبالتحديد بعد الرد الإيراني بقصف القاعدة العراقية ردًا على مقتل قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، طرحت تساؤلات عدة، وأهمها: هل فتح مقتل قاسم سليماني الباب أمام مواجهات عسكرية بين إيران وأمريكا أم أنها أغلقت باب التدخل الإيراني في شؤون دول المنطقة ومنها العراق.

ومن المعلوم أن الاحتجاجات التي تدور في معظم المدن العراقية وتحولها إلى نوع من العصيان المدني ضد الفساد المستشري المالي والإداري والطائفية المقيتة والنفوذ الإيراني الطاغي في المؤسسات المدنية ودوائر صنع القرار في العراق، قد تولد فراغا حقيقيا في معظم هياكل الدولة الاستراتيجية ودوائر صنع القرار عقب انهيار أركان الدولة العميقة المتمثلة بالقيادات الموالية لإيران ومليشياتها وأحزابها.

ومن المؤكد أن إيران لن تدع تلك الأحداث تمر دون وضع العراقيل لحدوثها مثلما لن تدع الأحوال في العراق تسير بما لا تشتهي أشرعة سفنها فتحاول بكل ما لديها استحضار ما ينوب عنها في العراق، وهي لها باع طويل في توريط جهات تعمل لصالحها بصورة فعالة، وما التدخل الروسي في سوريا إلا إحدى تجاربها ومساهماتها.

ولذا فإنها تحاول توريط روسيا من جديد في ملفات الشرق الأوسط لغرض قمع المعارضة العراقية، وبمعنى أنها ستزيد من اضطهادها للشعب العراقي عبر مؤازرة الآلة الحربية القاتلة لروسيا في العراق.

ولكن من المنطق أن نستحضر عدة قضايا تهم الجانب الأمريكي الطرف الرئيسي في الصراع:

أولا: هناك فيتو أمريكي لمنع أي تواصل بين الإيرانيين ودول الاتحاد الأوربي، وبالأخص مع فرنسا التي تحاول تجاوز الخلاف الأمريكي الإيراني في مسألة المفاعلات النووية الإيرانية.

ثانيا: تدرك أمريكا أن الإيرانيين سيتوجهون إلى روسيا في محاولة استبدالهم بدل أمريكا في العراق كما حدث في سوريا مما يعني مزيد من صادرات السلاح للروسية للمنطقة.

ثالثا: إن أي تواصل إيراني مع الاتحاد الأوربي يعني فتح الباب للصين على مصراعيه امام أسواق الشرق الأوسط والمنطقة عموما، ومن المعلوم أن التجارة البينية بين الاتحاد الأوربي والصين يتجاوز 1100 مليار، وهذا الرقم يحتل المرتبة الثانية بين الأمريكيين والاتحاد، وأيضا المرتبة الثانية بين الأمريكين والصين، وتحاول دول أوربا والصين زيادة التبادل التجاري بينهما لتقليل النشاط التجاري الأمريكي في أوربا.

رابعا: هناك عجز حقيقي للواردات الأمريكية للصين بما يقارب من 347 مليار دولارمقارنة بالصين، حيث تصدر ما قيمته بـ(463) مليار دولار إلى أمريكا، بينما تصدر أمريكا إلى الصين فقط (116) مليار دولار.

إذن فمن البديهي القول بأن مقتل سليماني هو لقطع يد إيران في المنطقة إرضاء لأطراف أخرى تعهدت بالبقاء تحت المظلة الأمريكية، ولمنع أي تواجد روسي وأوربي في العراق، وبالتالي هيمنة روسيا والصين والاتحاد الأوربي على مقدرات المنطقة في حالة خفوت الدور الأمريكي بها.

إن واشنطن وبحادثة استهداف رجل ومندوب إيران السامي في العواصم العربية الأربع قطعت كل خطوط التواصل بينها وبين إيران لانتفاء الحاجة الأمريكية للبعبع الإيراني، وبعدما صرح الرئيس الأمريكي ترامب بانتفاء حاجتها للنفط من دول المنطقة، مما يعني أن الدور الامريكي سيكون متركزا على الحفاظ على وضعية المنطقة سياسيا، وعدم السماح على حصول تغييرات جوهرية تؤدي إلى قلب موازين القوى بالمنطقة.

وبطبيعة الحال فإن أمريكا تحاول مقاومة ومناهضة كل من يحاول البروز للوقوف أمام هيمنتها كقطب واحد بكل الأشكال، حتى لو غيرت تكتيكاتها ومناطق تواجدها واهتماماتها فمن غير المستبعد أن تحضر كل ما هو مطلوب للقضاء على الدور الصيني التجاري الطاغي المنافس لأمريكا.

كما أن دعوة ترامب لحلف الناتو للاضطلاع بدوره الرئيسي في المنطقة بصورة عامة وبالعراق على وجه الخصوص يعني دعوة مباشرة لتركيا للعب دور رئيسي في المنطقة عموما وفي العراق على وجه الخصوص، والمعروف أن تركيا هي ثاني أقوى دولة في الحلف والحليف لأمريكا.

وينبغي الإشارة إلى وجود تركيا الدولة الحليفة والعضو في حلف شمال الأطلسي على الحدود الشمالية للعراق والتي تملك كل دعائم الاستقرار لها ولجيرانها من حيث بحثها الدائم عن أسواق وأرضيات  لمنتجاتها وشركاتها  للتصدير والاستثمار، وبنفس الوقت فإن بإمكان تركيا تلبية كل متطلبات استعادة النهوض بالبنى التحتية وتأهيل كل المصانع وتقديم كافة الخدمات الضرورية.

فالمعروف أن العراق عبارة عن ورشة عمل كبيرة على امتداد خارطتها تحتاج إلى كل أشكال البناء والإعمار والتأسيس والترميم، وإنشاء البنية التحتية والخدمية وتجديدها، وبناء مصانع ومعامل جديدة وشبكة متكاملة من خطوط النقل والمواصلات وسكك الحديد والمطارات، وهذه بالطبع باستطاعة تركيا توفيرها بشكل سلس وبسعر تنافسي لمجاورتها للأراضي العراقية، ولتوفر الأيدي العاملة الفنية.

وحتما سيلاحظ الإنسان العراقي الفرق الشاسع بين التدخل الإيراني التسلطي والمهيمن على البيت السياسي العراقي، الذي ترافق مع شح في أعمال البناء والإعمار طيلة هيمنتها، وبين مباشرة الشركات التركية بأعمالها في البناء والتعمير والإصلاح.

إن الزيارة التي قام بها وزير الخارجية التركي للعاصمة العراقية في الآونة الأخيرة أعطت مؤشرا واضحا على وجود رغبة حقيقية من الجانب التركي للوقوف إلى جانب الشعب العراقي الباحث عن استقلاليته، والذي يحاول نفض غبار السنين العجاف التي أصابت العراق من بعد الاحتلال، وفي نفس الوقت أعطت دلائل وبراهين على وجود ما يشبه الانقلاب في الشأن العراقي.

ومن المعلوم أن العراق يمر بفترة حرجة جدا في الفترة الحالية بعدما تحولت أراضيها إلى ساحة تصفية حسابات بين الأمريكان والإيرانيين، مما أدى إلى طرح الكثير من التساؤلات للدور الإيراني العدائي للعراق، والذي سمح لنفسه بانتهاك حرمة الأراضي العراقية.

وفي هذا الصدد نتساءل هل هناك نية في الاستراتيجية الأمريكية لجعل العراق والمنطقة من ثانويات اهتماماتها كما يتداول سؤال حول وجهة الهيمنة الأمريكية، وأين تكون أولى اهتماماتها.

بالتأكيد ستحاول أمريكا أن تكون في الخطوط الأمامية لحماية اقتصادها من ألد أعداء مصالحها.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس