د. جمال نصار - خاص ترك برس

لا يمكن لأحد كان أن ينزع مبادئ وأهداف ثورة يناير من قلوب وعقول المؤمنين بها، مهما كانت قوته، ومهما كان جبروته، فثورة يناير التي أحدثت علامة فارقة في تاريخ مصر الحديث، بل وفي العالم أجمع؛ ستبقى خالدة إلى أن تحقق أهدافها كاملة مهما طال الوقت والزمن، على الرغم من كل التحديات، والإخفاقات الكثيرة التي تقابلها.

فالثورة ليست ذكرى عابرة يتم الاحتفال بها وتنتهي، أو بضع مناسبات تتوالى وتنقضي، بل هي منهج حياة، وتدافع بين أصحاب الحقوق والفاسدين المستبدين، ولا تتوقف على أي فرد مهما كان حجمه وتأثيره، فهي مجموع الشعب المصري بكل أطيافه وفئاته، الذي يبحث عن حرية وحياة كريمة، ولقمة عيش بكرامة، وعدالة مفقودة غائبة، وحقوق إنسان مهدرة.

مراحل التغيير وطبيعة الثورات

لقد خلقت ثورة يناير روح الفاعلية والنشاط والمبادرة في قطاعات كبيرة من الشعب المصري، وخصوصًا الشباب، وصنعت حالة كبيرة من الوعي يساعد على استعادة الثورة وتحقيق أهدافها، رغم كل المحاولات التي يقوم بها نظام السيسي للقضاء عليها، مدعومًا بأنظمة إقليمية ودولية، وجهات مشبوهة.

والثورات التي حدثت في أماكن عديدة من العالم كانت لها مراحل، وجولات، وموجات عديدة، فالثورة الفرنسية أخذت عشرات السنوات حتى حققت أهدافها، وكذلك الثورة البلشفية في روسيا.

ومعيار النجاح الكلي لتلك الثورات يكمن في تحقيق أهدافها التي قامت من أجلها، والتطلعات والغايات التي يسعى الشعب لإكمالها، كما أن فشلها هو نتيجة لإخفاقها في إنجاز أي من تلك الغايات والأهداف.

وحدوث بعض الإخفاقات، أو ردة في مسار الثورة لا يعني القضاء عليها أو انتهائها، ولكن يعني أن هناك استكمالًا لمراحل الثورة الموجودة، بعودة الروح والوعي للشباب، والاستفادة من الدروس والانكسارات التي مرت بها الثورة ومؤيديها.

والثورات يتكون مخاضها في سنوات عديدة، وربما تأخذ جيلاً على الأقل، وليس صحيحًا أنه يمكن أن تحدث ثورتين في توقيت متقارب أبدًا، كما يدّعي أنصار الثورة المضادة، ويروّج له السيسي ومن يدعمه؛ لأن الشعوب لا تنتفض بسهولة. كما أن الثورة تأخذ وقتًا حتى تُنهي عملية التطهير ويبدأ البناء.. ولا يمكن أن تستمر ثورة لساعات لكي تُسقط النظام.

إخفاقات الثورة المضادة

على الرغم من الإمكانيات الهائلة لأنصار الثورة المضادة؛ وما حصل عليه السيسي من أموال خارجية، إلا أنه ثبت عجزه عن تقديم بديل مقنع للمصريين يجعلهم يقبلون بما هو قائم، ويتخلون عن حلم التغيير. والدليل على ذلك أنه عندما حدثت ثغرة بسيطة في جدار السلطة، ولاحت فرصة في مظاهرات 20 سبتمبر/أيلول 2019 اندفع الشباب إلى الشوارع، لم يكن يتوقعها الفنان محمد علي الذي دعا لهذه المظاهرات، نظرًا للمستوى الذي وصل إليه الناس من السخط على ظروف الحياة، والقمع الذي يعيشون فيه.

ودوافع ومسببات الثورة دائمًا ما تكون كامنة، ولكنها موجودة الآن في مصر في ظل الفساد والاستبداد، والظلم القائم الذي يتغول عامًا بعد عام، ويهدر حقوق المصريين، وكرامتهم، وثرواتهم، وجرّف قيمهم، وباع أرضهم، وبالتالي إذا اكتملت أسباب الثورة ستنفجر في أي وقت، مهما طال الزمن، وستكون أكثر وعيًا وهمة وحسمًا في ملفات كثيرة حتى تنجح وتحقق أهدافها كاملة.

وقد تكون قوى الثورة المضادة نجحت في سحق الثورات في الوقت الحالي، لكنها فشلت في بناء نظام سياسي حقيقي، يتحمل مسؤولياته في إدارة شؤون الدولة، وخدمة المواطنين، وإعطاء الشعوب ما تطالب به.

والواقع يشهد بأن الثورة المضادة في مصر فشلت في تحقيق الإصلاح، وفشلت في التحكم بالأمور، وفشلت في بناء نظام سياسي قوي، بل على العكس من ذلك كونت نظامًا هشًا، مهما تترس بالقوة الأمنية والعسكرية، فالسيسي أغرق البلاد في العديد من الأزمات الخانقة بعد توليه السلطة والحكم، بالانقلاب العسكري.

ومن المتوقع، بل من الضروري، أن يحدث ربيع عربي في السنوات القادمة أكثر وعيًا من سابقه، حيث ستظهر قيادات ثورية جديدة خارج الأطر التقليدية تقود الحركات الجديدة بوعي وذكاء وحنكة، وهذا يجب أن يعمل عليه الجميع بكل الإمكانيات.

دروس مهمة للتغيير القادم

ثورة يناير لا تزال تعلم الشعب المصري أن هناك أملاً يمكن أن يتحقق، وأن هناك أهدافًا يمكن للثورة أن تصل إليها، بجهود المخلصين وتجردهم، وخصوصًا بعد أن عرف القائمون على الثورة المصرية، والمتفاعلين معها أخطاءهم ومشاكلهم.

ومن ثمّ وجب على العاملين في مجال السياسة من قوى وأحزاب وحركات وطنية، الذين يريدون لروح يناير أن تعود مرة أخرى؛ أن يتحدوا ويتخلوا عن الأجندات الفردية، والبحث عن تصدّر المشهد، وأن يفكّروا في مصلحة مصر فقط، وأن يتذكروا عذابات المعتقلين، ومعاناة ذويهم، الذين ضربوا أروع الأمثلة في الثبات والتضحية.

وهذا يتطلب ضرورة وجود إرادة سياسية، مع التجرد وتجنب الشخصنة التي يعاني منها كثير من الرموز السياسية، وإعادة بناء الثقة فيما بينهم، وكذلك برفع منسوب الوعي عند جموع الشعب المصري، وكشف زيف السيسي ومن يدعمه، والاتفاق على هدف واحد وهو إسقاط هذا النظام المستبد الفاسد لإنقاذ مصر.

وستأتي لحظة يدرك فيها الشعب المصري أنه ليس هناك طريقة لتغيير هذا الواقع الذي يعيشونه، إلا برفض هذا الظلم والاستبداد، والوقوف ضد جبروت السيسي وبغيه، ومن ثمّ علي الجميع أدوار ومهام لإسقاط هذا النظام، منها:

أولًا: لابد للانتفاضة الشعبية الناجحة من قائد تجتمع حوله أطياف الثورة المختلفة، فالثورة المصرية لم يكن لها قائد واضح، بل برزت عدة قيادات وأيدلوجيات مختلفة، ومن ثمّ لابد من وجود قيادة واعية ذات إرادة صلبة، تسعى بالتعاون مع الجميع لإزاحة هذا النظام.

ثانيًا: يجب أن يكون هناك خريطة واضحة لخطوات العمل المطلوبة بعد إسقاط هذا النظام الفاسد، الذى استمر بعد نظام بائد، وسار على طريقته، بل أصبح أشد عُنفًا وفتكًا بمعارضيه، هذه الخريطة والرؤية تسعى لحل كل الملفات والقضايا التي تلامس احتياجات الشعب المصري، التي أهدرها السيسي، وفرّط فيها.

ثالثًا: لا يجوز لشركاء الثورة الاستعانة بالجيش مرة أخرى، ودفعه إلى التدخل لنصرة فريق ضد آخر، والتهليل لسحقهم والبطش بهم، لأن القوات المسلحة لن تتدخل إلا لإحكام قبضتها على البلاد والعباد ومن أجل ذلك تبطش بالجميع بمن فيهم أولئك الذين قاموا بتأييدها في البداية، فالقوات المسلحة دورها معروف في كل دساتير الدنيا.

رابعًا: الحذر من مؤامرات أعداء الثورة في الدولة العميقة، والذين لهم سيطرة واسعة على أجهزتها، فهؤلاء لن يتوقفوا عن تدبير المؤامرات بغرض إفشال الثورة، ودفع الناس العاديين، أو ما يسمى حزب "الكنبة" للاحتجاج عليها والانفضاض من حولها، بل والزعم أن العهد البائد قبل الثورة كان الأفضل.

خامسًا: لابد لمن يتصدر المشهد، وينهض بمؤسسات الدولة في مختلف أجهزتها؛ أناس أكفاء يكفيهم أن يكونوا مؤمنين بأهداف الثورة ومبادئها، دون الانتماء لفصيل معين، أو حزب بعينه، ويتطلعون إلى عهد جديد يشارك فيه الجميع لبناء مصر دون استثناء لأحد.

وفي النهاية أؤكد أن ثورة يناير ليست مظاهرات فقط مع أهميتها، بل هي فكرة، ومبادئ، ووسائل مختلفة لإزاحة نظام السيسي الظالم والمستبد، بكل الطرق السلمية المبدعة، فيناير غيرت مفاهيم، وقلبت موازين، وكشفت كل مستور، وفضحت كل عميل، وأبانت الطريق لمن يريد أن يتحرر من كل بغي وجبروت.

عن الكاتب

د. جمال نصار

كاتب ومفكر مصري، أستاذ الفلسفة والمذاهب الفكرية المشارك في جامعة اسطنبول صباح الدين زعيم، وباحث أول سابق في مركز الجزيرة للدراسات بالدوحة.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس