ياسر عبد العزيز - خاص ترك برس

خلال الأشهر الماضية بدأت تظهر نغمة بين السوريين سواء المقيمين في تركيا أو في المناطق المحررة بأن تركيا باعت الثورة السورية، ازدادت تلك النغمة مع القصف المكثف للنظام وحليفه الروسي على إدلب، أخر معاقل الثورة السورية وأهمها، حتى أن هناك من يروج للوجود التركي على الأراضي السورية المحررة او التي حررها الأتراك من أيدي ميليشيات سوريا الديمقراطية بأنه احتلال، على الرغم من أن تلك الأراضي سلمت بشكل كامل للمعارضة السورية، وبل ويتم تعميرها وإعادة البنية التحتية لها، من الكهرباء والماء إلى توصيل خدمة الانترنت، وكذا بناء مؤسساتها الاجتماعية والخدمية حتى يتولى السوريون إدارتها بأنفسهم، مع ذلك فإن الكثير من السوريين يرون أن التجربة السورية مع الأتراك كانت احتلال واغتصاب للإرادة وتصفية للفصائل وتسويد سقط الناس على الشعب، بعد إسناد أمور الشعب السوري في المناطق المحررة لمن يرونهم لشخصيات ممسوخة الشخصية والهوية، ومن ثم يجب إعادة تقييم التجربة والوقوف على مكامن القصور.

بداية السؤال من أساسه خطأ، فالسؤال تقريري، بما يعني أن تركيا بالفعل باعت الثورة السورية، والأجدر أن يكون السؤال: هل باع الأتراك الثورة السورية؟ لكن حتى هذه الصيغة ليست صحيحة، بل وظالمة، لا لأن الأتراك لم يبيعوا السوريين، ولكن لأن السؤال أيضا يضع تركيا في حرج كبير وخطأ أكبر أمام المجتمع الدولي، إذ أن تركيا لو ساندت الثورة السورية كما يريد البعض فإنها ستتدخل في شؤون دولة جارة، وهو ما لم يحدث، ومن هذا المنطلق يمكن تفهم موقف تركيا في تعاملها مع الأزمة السورية، منذ البداية وحتى الآن، فمحددات السياسة الخارجية، إمكانيات الداخل في كل من تركيا ومع المعارضة ترسم الخرائط وتصنع خطوات التنفيذ، وقرأت هذه المحددات والإمكانيات بشكل جيد يجعل الحكم على الأمور أكثر عدلا، مع الوضع في الاعتبار أن هذه المحددات والإمكانيات تتغير من وقت لآخر بحسب التدافع الدولي في الأزمة وتغيير الفاعلين من مربعات تمركزهم، بما في ذلك المعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري.

قد يكون من فضل الكلام أن نتحدث عما قدمته تركيا على المستوى الإغاثي للاجئين السوريين، فهذا الكلام أصبح غير مقبول لدى الكثير من السوريين، لكن الإنصاف يحتم ذكره، لا تذكير من تحول موقفه أو لتعريف من لا يعرف فينكر على غير علم، فتركيا وبحسب الإحصاءات الرسمية قدمت خدمات جليلة للسوريين وقننت تلك الخدمات بقوانين، تحسبا لتغير الحكومة، فتزول هذه الخدمات عن اللاجئ السوري، فاعتمدت قانون الحماية الدولية للنازحين في 2013، وفي 2015 أصبحت دائرة الهجرة التركية عاملة في كافة المحافظات التركية الـ81، لتخدم 3.6 مليون سوري بحسب إحصائية 2019، ومنذ بداية الأزمة، ولد 434 ألف طفل سوري في تركيا وهو ما يحمل تركيا مسئولية العناية الصحية للمولود ولأمه من قبله خلال فترة الحمل، وهو ما يعني أيضا أن عدد السوريين في تزايد، ولتقديم أفضل الخدمات للاجئين اعتمدت الدولة اللغة العربية في كل مصالحها، وهو ما آثار فئات واسعة من الشعب، المعتز بلغته وقوميته، وفتحت تركيا مدارسها وجامعتها واستقبلت في مدارسها 643 ألف تلميذ وفي الجامعات 21 ألف طالب، كما فتحت مستشفياتها لكافة السوريين بالمجان، وعلى مستوى العمل فقد كانت تركيا ساحة رحبة لتجارة السوريين وخدماتهم.

أما إن كان الحديث في الغالب عن الوضع الميداني والسياسي، فلقد قدمت تركيا المأوى للساسة السوريين وكانت الأراضي التركية دوما منطلقا لتحركات المعارضة السورية، بل ومهدت الطريق أمام تجمعات المعارضة السورية للجلوس مع المجتمع الدولي لشرح قضيتهم، مع ذلك فإن الإخفاقات السياسية التي حققها هؤلاء الساسة والتي يرجعها المراقبون إلى حمل كل فرد في هذه المعارضة أجندته الخاصة، جعل من هذه المعارضة عبء على سوريا أكثر منها على تركيا، غير أن هذا الإخفاق لم يثنِ تركيا عن تقديم خدماتها للسوريين كشعب، فقامت بحراك خشن على حدودها بمساعدة بعض فصائل الجيش الحر، بعد أن تعبت من تجميع فصائله، والسبب معروف لكل سوري، فاستطاعت من خلال بعض الفصائل المنخرطين في الجيش الحر من تأمين ما يزيد على الــــ 4 آلاف كيلو متر من خلال عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام، والآن وبعد القصف المستمر على إدلب وشمال حلب، تدخل تركيا في صدام سيفقدها حليف مهم في لعبة التوازنات التي تتحرك فيها بحذر شديد.

أزمة السوريين بل والعرب الفارين من الثورات المضادة في بلدانهم، أنهم يرون في تركيا أُما، وحاميا، ومسئولة عن إعادة حقوقهم وحقوق شعوبهم ولو دخلت في ذلك عرائن الأسود الجائعة والتي تنتظر أن تهن تركيا كي تنقض عليها، كما أن تركيا في النهاية بلد له مصالحه وتطلعاته، ومن غير المعقول أن يراهن بمستقبل 80 مليون تركي، وتغامر القيادة السياسية التي تدفع كل يوم من شعبيتها في مغامرات غير محسوبة.

لقد كانت تركيا تنتظر منا كعرب أن نمد يد العون لها لتمد هي الأخرى يدها لنقوى وتقوى، لكننا لم نقدم الرؤية ولم نقدم أوراق الضغط التي يمكن أن نلعب بها في أزماتنا ومن ثم تتمكن تركيا من لعب دور مريح في هذا البحر المتلاطم الذي تجمعت فيه موجات الخليج وموجات الغرب لتغرق تركيا، فبدلا من أن نعوم تركيا نقوم نحن بجذبها لأسفل، وكأننا لا نرضى أن يبقى أحد يطفو عله ينتشلنا، فالإصلاح الداخلي ونقية الصف هو السبيل لانتصارنا على أعدائنا.

سئل حكيم : بم ينتقم الإنسان من عدوه؟ فقال : بإصلاح نفسه.

عن الكاتب

ياسر عبد العزيز

كاتب وباحث سياسي ومدير مركز دعم اتخاذ القرار في حزب الوسط المصري سابقا.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس