د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس

قد يعجبُ كثير من العرب لهذا الانسجام والتّفاهم الذي يمّيز علاقة تونس بالجزائر سواء على المستوى الرّسمي أو على المستوى الشّعبي، وقد رأينا كيف أنّ الأعلام التونسية والجزائريّة ترفع دومًا جنبًا إلى جنب في المناسبات الوطنيّة والرياضيّة، ورأينا هذا التّوافق الكامل في المواقف من القضايا التي تهم منطقة المغرب العربي أو القضية الفلسطينيّة أو غيرها من القضايا وآخرها ما عبّر عنه رئيسا البلدين يوم الأحد 2 فبراير 2020 أثناء زيارة الرئيس التّونسي إلى الجزائر في أول زيارة رسميّة له خارج حدود الوطن. وفي تعبير له دلالته قال الرئيس التّونسي إنّ الشّعب التّونسي والجزائري شعب واحد لكنّه يقيم في بلدين. وهذا التّوافق والانسجام لا يمكن فهمهما دون الرّجوع إلى الذّاكرة التّاريخية والنّبش فيها. وتمر هذه الأيام ذكرى أحداث أليمة اختلطت فيها دماء التّونسيّين بدماء إخوتهم الجزائريّين، أحداث تسبّبت في مآسي وآلام لتّونسيّين عزّل ذنبهم أنّ المجاهدين الجزائريّين يحتمون ببيوتهم ويتدرّبون على القتال على أرضهم، ويمدّونهم بالمؤونة والطّعام عند الحاجة.

السّاقية وأحداث فبراير1958م

اندلعت ثورة التّحرير الجزائريّة في نوفمبر عام 1954م بعد أن سادت قناعة لدى المجاهدين في الجزائر بأنّه لا يوجد حلّ وسط مع المحتل الفرنسيّ الغاشم، فإما تحرّر كامل وإمّا فناء. وقد زاد من قناعتهم تلك ما ارتكبته فرنسا من فضائع وجرائم مريعة في حق المدنيّين العزّل، وفي حق الدّين والهويّة واللّغة. فقد سعى الفرنسيّون إلى طمس جميع معالم الهويّة الجزائريّة بكل ما أوتوا من قوّة وبطش. وكان لابدّ من اتّخاذ قرار حاسم للدّخول في مواجهة شاملة مع هذا المحتلّ رغم الفارق الكبير في الإمكانيّات، هذا المحتلّ الذي غزا الجزائر عام 1830 م وظلّ جاثما على أرضهم وصدورهم لأكثر من مائة عام.

كانت تونس، وخصوصًا مناطق الشّمال الغربي مثل طبرقة وعين دراهم وغارالدّماء وجندوبة والكاف والقَصرين... تمثل القَاعدة الخلفيّة للثوار الجزائريّين، حيث كانوا يتّخذون منها مخابئ لهم وساحات للتّدريب، ومخازن للأسلحة ينقلونها عبر الجبال إلى داخل التّراب الجزائريّ. وكانت هذه المناطق كذلك مأوى لعشرات آلاف اللاّجئين الذين تدفّقوا عليها بعد أن تعاظم بطش الاستعمار الفرنسيّ وأصبحت حياة النّساء والأطفال والشّيوخ داخل الجزائر عُرضة لمخاطر جمّة، أمّا الشّباب فقد التحق أكثرهم بجبهات القتال.

وجاء الانتقام الفرنسي من أهالي تونس بأن شنّت عليهم الطائرات الفرنسيّة هجومًا مباغتًا في منطقة ساقية سيدي يوسف التي تقعُ اليوم في محافظة الكاف شمال غرب البلاد التّونسيّة، وكان ذلك يوم 8 فبراير 1958م ، واستهدف الهجوم مدرسةً وسوقًا مزدحمة بالتّونسيّين والجزائريّين، واختلطت دماؤهما معًا في مشهد ظلّت الذّاكرة المشتركة للشّعبين تحتفظ به، ويُحتفل بذكراه كلّ عام من قبل مسؤولي الجانبين. وبلغ عدد الشّهداء نحو الثّمانين فردًا ما بين نساء وأطفال، بالإضافة إلى عشرات الجَرحى والمصابين. وقد أثارت هذه الجريمة حفيظة المجتمع الدّولي، وزار المنطقة سفراء وديبلوماسيّون من دول مختلفة، وتم التّنديد بهذه الجريمة على نطاق واسعٍ.     

بومُدين: 30 شهرًا يُدير المعركة من غارالدّماء

منطقة أخرى من مناطق الشّمال الغربي التّونسي المجاورة للجزائر، هي منطقة غارالدّماء التّابعة لمحافظة جندوبة وجَدت نفسها هدفًا للاعتداءات الفرنسيّة المتكرّرة، بل إنّ أهالي هذه المنطقة يَعتبرون أنّ استقلالهم إنما تحقق يوم استقلّت الجزائر عام 1962م، أمّا استقلال تونس الذي أُعلن بتاريخ 20 مارس 1956م  فلا علاقة لهم به لأنّ أراضيهم كانت مُستباحة من قبل الجيش الفرنسيّ، يقصفها بالمدافع ويُطارد فيها المجاهدين الجزائريّين وينتقم من الأهالي بسبب تقديمهم الدّعم للثّوار. وهنا يتعيّن التّذكير بأنّ هذه المنطقة آوت نحو 80 ألف لاجئ جزائري أقاموا هناك وتقاسم معهم الأهالي ما يملكون من المسكن والملبس والمأكلِ، ونُسجت بينهم علاقات زواج ومُصاهرة، وكثير من التّونسيين تزوّجوا من جزائريّات، وكثير من الجزائريّين تزوّجوا من تونسيّات. والأمر الآخر المهم أن الزّعيم الجزائريّ هواري بُومدين أقام بهذه المنطقة نحو 30 شهرًا يُنظّم صُفوف المجاهدين، ويُدير المعركة داخل التّراب الجزائريّ ضد الفرنسيّين انطلاقًا من هُناك. وكان معه قادة آخرون كبار من بينهم الرّئيس الجزائري الأسبق الرّاحل الشّاذلي بن جديد. وكانت لهم علاقات طيّبة مع الأهالي مازال كبار السنّ يذكُرونها حتّى اليوم.

ولم تكتفِ فرنسا بما ارتكبته من مجزرة في ساقية سيدي يوسف بل أرادت أن تنتقم هذه المرّة من هذه المنطقة الوادعة، فأرسلت حمم مدافعها من منطقة سيدي الهميسي الواقعة على الحدود داخل التّراب الجزائري يوم 23 يناير 1961م وقتلت عددًا من المدنيّين التونسيّين وجرحت عددًا آخر، كان هذا بعد خمس سنوات من إعلان الاستقلال. وتوالى القصف لمناطق أخرى تابعة لغارالدّماء مثل عين سلطان ووشتاتة والعيون وغيرها. وكانت هذه مناسبة أخرى يُقتل فيها تونسيّون فداء لإخوانهم الجزائريّين، فتعمّدَت الأُخوّة بين الشّعبين بالدّماء وتوثّقت الصّلات بينهما بحيث أصبح عصيًّا على الأيّام أن تنال منها.

وعندما أُعلن عن استقلال الجزائر في يوليو عام 1962 م وحان الوقت لعودة الجزائريّين إلى وطنهم الأمّ كانت لحظات صعبةً على إخوة عاشُوا معًا أشدّ المحن والصّعاب بصبرٍ وجلَدٍ ومحبّة، وكان ينبغي لهما أن يفترقوا. ويَذكر شُهود تلك المرحلة أنّ التّوديع كان بالبُكاء والدّموع. ورغم رجوع الجزائريين إلى بلادهم فإنّ النّسيج الذي رُبط بين الطّرفين ظلّ متواصلاً حتى اليوم، نسيج قُدّت خيوطه من الدّم والدّموع الأخوّة والفداء والتّضحية. تلك هي جذور هذه العلاقة المتميّزة بين الشّعبين التّونسي والجزائريّ، وهي تتبدّى باستمرار في مناسبات كثيرة. وقبل سنوات قليلة عندما استهدف هُجوم إرهابيّ تونس، وأعلنت شركات أوروبيّة عن وقف رحلاتها السياحيّة إلى تُونس تدفق الجزائريون بمئات الآلاف على تونس بسيّاراتهم مُعلنين أنهم لن يتخيّلوا عن تونس، وأنّهم سوف يُعوّضون ما يحصل من نقصٍ قد يضرّ باقتصاد البلاد.

عن الكاتب

د. مصطفى الستيتي

باحث متخصص في التاريخ العثماني.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس