عاصم مشوح - خاص ترك برس

مقدمة

ربما يُدرك الخبراء المطلعون على الشأن الإيراني وتجلياته في سوريا، كساحة رئيسة من ساحات تمدده وامتداده، أن العلاقات بين الطرفين مرت بمرحلتين أساسيتين، مرحلة الأسد الأب، والتي كان يغلب عليها الندّية والتنافس والمصالح، ضمن لعبة التحالفات، ومرحلة الأسد الابن، والتي تغوّلت فيها إيران في الشأن السوري، وتوغلت في مفاصل الدولة والمجتمع بأشكال مختلفة، ما يُمكن معه أن نصفها بمرحلة التبعية، والتي باتت فيها سورية ساحة من ساحات النفوذ الإيراني.

ويبدو أن قيام الثورة السورية عام 2011 أعطى إيران فرصة تاريخية كي تعيد رسم شكل علاقتها بسوريا الدولة والمجتمع، بعيداً عن العلاقات التقليدية الآنفة الذكر، ضمن استراتيجيات جديدة تُصبح فيها سوريا، مُجرّد مُلحقية تتجسّد فيها شعارات "تصدير الثورة الإيرانية".

المحاور:

1. سوريا وإيران.. ندّية العلاقة

لم يكن عام 1979 جيداً بالنسبة للمشرق العربي، فقد وُلد كيان جديد قائمٌ على أٌسس مختلفة، يُسمى "الجمهورية الإسلامية الإيرانية"، كان نتيجة ما أُطلق عليه "الثورة الإسلامية في إيران"، بقيادة الخميني الذي وصل حينها على طائرة فرنسية إلى مهد "الثورة"، والذي رأى أنه لا يمكن لإيران الجديدة أن يشتدّ عودها إلا ببناء تحالفات بينية على قيم مشتركة مع دول وكيانات في المنطقة التي تتنازعها قوىً مختلفة.

لم يكن أحدٌ يعلم بعدُ أن العين الخمينية التي تحمل لونين من السياسي والمذهبي، كانت تمتدّ إلى دولة مركزية ومؤثرة ذات طابع تاريخي وحضاري موغل في العراقة، وهي سوريا التي شهدت هي الأخرى ما يُسمى بـ "الحركة التصحيحية" بقيادة حافظ أسد الذي أتى بانقلاب أطاح برفاقه في حزب البعث في نفس العَقد وبالتحديد عام 1970.

وإذا أردنا أن نلقي نظرة على مجمل التشابهات بين النظامين الإيراني والسوري فيمكننا القول بأن ثمّة جينات مشتركة بينهما ساعدت في تقوية أواصر العلاقات إلى حد كبير، منها طبيعة النظامين السلطوية الشعبوية، وكونهما كذلك يتسمان بالشمولية، إضافة إلى كون سلطة القرار متركّزة في رأس الدولة، فضلاً عن المشترك المذهبي بين النظامين.

وبالانتقال إلى الطبيعة الذهنية والنفسية لحافظ أسد التي ساهمت في إدارة سياسته الخارجية أنه وجّه دعوة إلى الخميني للإقامة في سوريا بعد مغادرته العراق، على الرغم من أنّ إيران في عهد الشاه دعمت الأسد بقرض قيمته 150 مليون دولار بعد حرب 1973 ، وهو ما يوحي بالتلاعب والمصلحية السياسية التي كانت تتحكم في علاقاته مع الآخرين.

أما قائد الحرس الثوري الإيراني خلال الحرب العراقية الإيرانية "محسن رفيق دوست" فيكشف في مذكراته كيف أنهم كانوا يحتاجون إلى صواريخ مكافئة للرد على الصواريخ العراقية، حيث أرسله رفسنجاني إلى سوريا للقاء الأسد الأب لطلب هذه الصواريخ منه، وكيف أن حافظ اعتذر عن ذلك بحجة أن الصواريخ السورية تحت سيطرة السوفيتي.

إنّ الواقعية والموضوعية تقول بأنّ حافظ أسد على الرغم من أنه كان يتستر بالقومية والوطنية وأنه كان دكتاتوراً يستبطن الطائفية، وأنه حمى حدود سوريا مع الصهاينة في الجولان عقوداً أربعة، إلا أنه لم يكن يسمح لإيران أن تهيمن على سوريا وتبتلعها، ولعل ما يؤكد ذلك ما رواه السفير السوري السابق صقر الملحم عن إحدى زيارات الأسد الأب إلى إيران، وكيف أن الرئيس سأله عما يحتاجه لتطوير السفارة السورية في طهران، فردّ عليه الملحم بأن هناك طلباً صغيراً وهو أن يُسمح للإيرانيين بالدخول إلى سوريا بدون تأشيرة، أسوةً بالإخوة العرب، ويضيف السفير بأني لم أنسَ كيف أصبحت عيون الرئيس وكيف شعرتُ أن الأرض ستُزلزل من تحت أقدامنا بسبب انزعاج الأسد الشديد من هذه الفكرة، وكيف أنه أنهى اللقاء مع السفير الملحم.

2. بشار أسد.. "وذيليّة" الدولة السورية أمام إيران

"ومَن مَلَك البلاد بغير حرب،، يهون عليه تسليم البلادِ"

ليس من نافلة القول إن المسرحية الهزلية التي استلم فيها بشار أسد كرسيّ السلطة من أبيه في سوريا، كانت عنواناً عريضاً لما آل إليه حال البلاد بعد ذلك، حيث تم تعديل الدستور ليُناسب عمر الرئيس الجديد، فضلاً عن تجهيزه في وقت قياسي، كي يكون بديلاً للتوريث عن أخيه ماهر أسد الذي اختطفه الموت في حادث سيارة عام 1994 قيل إن هناك مَن دبّره من داخل الطائفة.

كانت آذان الشعب السوري تسمع من بشار أسد عن الإصلاح والتغيير في سوريا أكثر مما تراه عينه، وهو المعنى الذي أكّده أحد المسؤولين الأمريكيين بعد الجلوس معه، فكسْر القانون وتسلط الأجهزة الأمنية والاعتقالات التعسفية وانعدام الحريات وحكم الحزب الواحد، وغيرها من مظاهر الدولة البوليسية، أصبحت مُكرّسة بصورة كبيرة في عهده، ما يوحي بأنّ هذا النظام يستبطن عناصر كثيرة تجعله غير قابل للإصلاح.

لم تكن العين الإيرانية غافلة عن سوريا الحليف الاستراتيجي القديم، وما يحدث في عهد الرئيس الجديد، بل كانت مستبشرة بزوال الأسد الأب، عندما قال أحد القادة الإيرانيين الكبار في عزاء حافظ في السفارة السورية في طهران: "لقد أزاح الله الجبل من أمامنا (قاصداً حافظ الأسد) وقريباً ستنهض زينب من غفوتها في دمشق، وسترسو سفننا في البحر المتوسط".

لقد وجد الإيرانيون وراء هذا "الجبل" سهول سوريا الخضراء التي أعطاهم بشار إياها دون أي مساومات سياسية تفرضها على الأقل هيبة الدولة أو هيبته هو كرئيس أو مركزية سوريا في المنطقة أو تاريخها العريق، فضلاً عن الشعب بمختلف أطيافه والذي لم يكن مجرّد الرأي في أيّ شأن من شؤون الدولة، فشرعت إيران في إنشاء مشاريع اقتصادية ضخمة وبناء مصانع للسيارات وإقامة مدن وتجمعات سكنية خدمةً لمشروعها المذهبي، فضلاً عن خسارته الاستراتيجية في لبنان وتسليمها لإيران وذلك بعد مقتل الحريري وإخراج الجيش السوري ذليلاً من لبنان بعد ثلاثة عقود من التحكم الكامل في هذا البلد، وهو ما أكّده عبد الحليم خدام في مقابلة معه عام 2017.

3. الثورة السورية.. وسياسة غرز المخالب الإيرانية في الدولة والمجتمع

"إنّ أهداف الإيرانيين تغيير البنية السكانية للشعب السوري، عبر دفع السوريين من أجل الهجرة وهذا يفسر استخدام العنف المفرط في سوريا، ونرى الآن أن دمشق تحولت إلى مستوطنة إيرانية، وسبب التركيز على دمشق يعود لأسباب تاريخية، لأن الدولة الأموية في دمشق هي من أسقطت الدولة الفارسية، فإيران أهدافها عقائدية في سوريا".

بات عام 2011 رقما صعباً في التاريخ السوري المعاصر، حيث فجّرت تراكمات نصف قرن من الحكم الشمولي، البعثي في ظاهره والطائفي في باطنه، ثورة جابت جهات سوريا الأربع، خرج فيها الشعب السوري يُطالب بحقوقه من الكرامة والحرية، في ممارسة سلمية استمرت نحواً من عام، حيث كان يبلغ عدد الشهداء في المرحلة السلمية في أوقات الذروة نحواً من 250 شهيداً في اليوم الواحد، دُفع فيها السوريون بقوة لحمل السلاح من أجل الدفاع عن أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، ما جعل الثورة تأخذ شكلاً عسكرياً خصوصاً مع بدء انشقاقات في مُرتبات جيش النظام، وانضمامهم إلى صفوف الثوار لحمايتهم وحماية المظاهرات التي استمرت طويلاً، حتى مع تحوّل الثورة إلى العسكرة.

استخدم النظام كلّ قوته العسكرية في قمع الثورة وقتل الثوار السوريين، بداية من السلاح الخفيف وانتهاءً بالسلاح الصاروخي والكيميائي، ما أوصل الجيش إلى حالة من الإنهاك الكبير، والذي حدا بالنظام إلى الاستعانة بالإيرانيين الموجودين سابقاً ودعمهم بالمزيد من القوات النظامية الإيرانية كمستشارين وخبراء وضباط ومقاتلين، إضافة إلى الميليشيات الشيعية المختلفة والتي نكّلت بالسوريين وارتكبت في حقهم مجازر يندى لها جبين التاريخ.

ومن الأهمية بمكان أن نُجمل أشكال التدخل الإيراني في سوريا فترة الثورة، والتي أصبحت تتحكم بكل مفاصل الدولة السورية، والتي تبلغ نحواً من 30 ألف مقاتل تابع للحرس الثوري وميليشيات مختلفة على رأسها ما يُسمى حزب الله اللبناني ولواء فاطميون.

* الدعم المالي، حيث تفيد الدراسات بأن إيران قدّمت لسوريا مبلغ 4 مليارات دولار على شكل ائتمان، بينما أفادت تقديرات غير مؤكدة بأن النظام في طهران يُعطي لسوريا نحواً من 700 مليون دولار شهرياً.

* الدعم العسكري، المتمثل بالسلاح الخفيف والثقيل فضلاً عن تخطيط وقيادة معارك كاملة من قِبلِ الإيرانيين، يأتي على رأس ذلك إشراف فيلق القدس على أنشطة طهران في سوريا.

* الدعم الاستخباري، حيث أصبحت أجهزة الأمن السورية الـ 15 المعروفة بسطوتها وتدخلها في كل مجالات المجتمع، تحت نظر الضباط الإيرانيين، توجيهاً وإشرافاً ودعماً، وعملياتُ التحقيق من قبلهم مع المعتقلين السوريين مشهورة.

* تشييع السوريين، ببناء الحسينيات في كثير من القرى والمدن، وإقامة محافل ومدارس للطلبة السوريين في المدن الكبرى مثل دمشق وحلب وغيرهما، ونشر المذهب الشيعي بالإغراء بالمال بين أبناء الأغلبية السنية.

من كل ما سبق يتبين لنا أن إيران عملت على منظومة كاملة تقمع من خلالها الشعب السوري الثائر، وتأمَن من غضبة من تبقى منهم بالتشييع والتغيير الديموغرافي، حتى يتم تشكيل سوريا جديدة عبّر عنها بشار أسد في إحدى لقاءاته با "المتجانسة"، ما يضمن لإيران مصالحها الاستراتيجية في سوريا على المدى البعيد، حتى تصبح المحافظة الإيرانية الخامسة والثلاثين.

ولعل ما يُتوّج هذا الذوبان والتماهي بين الدولة في سوريا وإيران قيام بشار أسد بزيارة طهران وتقديمه التهاني للإيرانيين بالذكرى الأربعين "لثورتهم"، حيث ظهر العلم الإيراني وغاب العلم السوري، فضلاً عن رغبة خامنئي في تقوية العلاقات الدينية بين إيران وسورية.

أما الشعب السوري الثائر فقد كان يردد قول فاتح الشام عمر بن الخطاب:" ليت بيني وبين فارس جبلاً من نار".

عن الكاتب

عاصم مشوح

إعلامي سوري، ومذيع ومقدم برامج.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس