د. علي الصلابي - خاص ترك برس

إن السمات والصفات التي تميز بها المسلمون في عصر الصِّدِّيق ، وعهد الخلفاء الرَّاشدين بصفةٍ عامَّةٍ، تعطي الصورة عن الصفات الحقيقية للمسلم المثالي كما ينبغي أن يكون عليه، فقد أصبح هذا الجيل والرعيل الأول قدوة لمن يليه من أجيال المسلمين في كل زمان ومكان، إلا أنَّ تلك السِّمات كانت أقوى كلَّما اقتربنا من عهد النُّبوَّة ، وتضعف كلَّما ابتعدنا عن عصر النُّبوَّة ، وهذه السِّمات جعلته مجتمعاً مسلماً في أعلى افاقه ، وهي الّتي جعلت هذه الفترة المثاليَّة في تاريخ الإسلام ، كما أنَّها هي الّتي ساعدت في نشر هذا الدِّين بالسُّرعة العجيبة الّتي انتشر بها ، فحركة الفتح ذاتها من أسرع حركات الفتح في التَّاريخ كلِّه ، بحيث شملت في أقل من خمسين عاماً أرضاً تمتدُّ من المحيط غرباً إلى الهند شرقاً، وهي ظاهرةٌ في ذاتها تستحقُّ التَّسجيل، والإبراز، وكذلك دخول النَّاس في الإسلام في البلاد المفتوحة بلا قهرٍ ، ولا ضغطٍ ، وقد كانت تلك السِّمات الّتي اشتمل عليها المجتمع المسلم هي الرَّصيد الحقيقيُّ لهذه الظَّاهرة ، فقد أحبَّ النَّاس الإسلام لَمَّا رأوه مطبَّقاً على هذه الصُّورة العجيبة الوضَّاءة ، فأحبُّوا أن يكونوا من بين معتنقيه.

وقد كان المجتمع الإسلامي في خلافة الصِّدِّيق ، والفاروق ، والنِّصف الأوَّل من خلافة عثمان يتَّصف بالسِّمات الاتية :

1 ـ أنَّه ـ في عمومه ـ مجتمعٌ مسلمٌ بكامل معنى الإسلام ، عميق الإيمان بالله ، واليوم الآخر ، مطبِّقٌ لتعاليم الإسلام بجدِّيةٍ واضحةٍ ، والتزامٍ ظاهر ، وبأقلَّ قدرٍ من المعاصي وقع في أيِّ مجتمعٍ في التَّاريخ ، فالدِّين بالنِّسبة إليه هو الحياة ، وليس شيئاً هامشيّاً يفيء النَّاس إليه بين الحين ، والحين ، إنَّما هو حياة النَّاس ، وروحهم ، ليس فقط فيما يؤدُّونه من شعائر تعبُّديَّةٍ ، يحرصون على أدائها على وجهها الصَّحيح ، وإنَّما من أخلاقياتهم ، وتصوُّراتهم ، واهتماماتهم ، وقيمهم ، وروابطهم الاجتماعيَّة ، وعلاقات الأسرة ، وعلاقات الجوار ، والبيع ، والشِّراء ، والضَّرب في مناكب الأرض ، والسَّعي وراء الأرزاق ، وأمانة التَّعامل ، وكفالة القادرين لغير القادرين ، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ، والرَّقابة على أعمال الحكام والولاة ، ولا يعني هذا بطبيعة الحال : أنَّ كلَّ أفراد المجتمع هم على هذا الوصف ، فهذا لا يتحقَّق في الحياة الدُّنيا ، ولا في أيِّ مجتمعٍ من البشر ، وقد كان في مجتمع الرَّسول (ص) ـ كما ورد في كتاب الله ـ منافقون يتظاهرون بالإسلام ، وهم في دخيلة أنفسهم من الأعداء ، وكان فيه ضعاف الإيمان ، والمعوِّقون ، والمتثاقلون ، والمبطِّئون ، والخائنون ، ولكن هؤلاء جميعاً لم يكن لهم وزنٌ في ذلك المجتمع ، ولا قدرةٌ على تحويل مجراه ؛ لأنَّ التَّيَّار الدَّافق هو تيَّار أولئك المؤمنين الصَّادقي الإيمان المجاهدين في سبيل الله بأموالهم ، وأنفسهم ، الملتزمين بتعاليم هذا الدِّين.

2 ـ أنَّه المجتمع الّذي تحقَّق فيه أعلى مستوى للمعنى الحقيقيِّ ( للأمَّة ) ؛ فليست الأمَّة مجرد مجموعة من البشر جمعتهم وحدة اللُّغة ، ووحدة الأرض ، ووحدة المصالح ، فتلك هي الرَّوابط الّتي تربط البشر في الجاهليَّة ، فإن تكوَّنت منهم أمَّةٌ ، فهي أمَّةٌ جاهليَّة ، أمَّا الأمَّة بمعناها الرَّبانيِّ ؛ فهي الأمَّة الّتي تربط بينها رابطة العقيدة، بصرف النَّظر عن اللُّغة ، والجنس ، واللَّون ، ومصالح الأرض القريبة ، وهذه لم تتحقَّق في التَّاريخ كما تحقَّقت في الأمَّة الإسلاميَّة ، فالأمَّة الإسلاميَّة هي أمَّةٌ لا تقوم على عصبية الأرض ، ولا الجنس ، ولا اللَّون ، ولا المصالح الأرضيَّة ، إنَّما هو رباط العقيدة ، يربط بين العربيِّ ، والحبشيِّ ، والرُّوميِّ ، والفارسيِّ ، يربط بين أهل البلاد المفتوحة والأمَّة الفاتحة على أساس الأخوَّة الكاملة في الدِّين .

ولئن كان معنى الأمَّة قد حقَّقته هذه الأمَّة أطول فترةٍ عرفتها الأرض ، فقد كانت فترة صدر الإسلام أزهى فترةٍ تحقَّقت فيها معاني الإسلام كلُّها، بما فيها معنى الأمَّة، على نحوٍ غير مسبوقٍ.

3 ـ أنَّه مجتمعٌ أخلاقيٌّ ، يقوم على قاعدة أخلاقيَّةٍ واضحةٍ مستمدَّةٍ من أوامر الدِّين، وتوجيهاته ، وهي قاعدةٌ لا تشمل علاقات الجنسين وحدها ، وإن كانت هذه من أبرز سمات هذا المجتمع ، فهو خالٍ من التَّبرُّج ، ومن فوضى الاختلاط ، وخالٍ من كلِّ ما يخدش الحياء من فعلٍ ، أو قولٍ ، أو إشارةٍ ، وخالٍ من الفاحشة إلا القليل الّذي لا يخلو منه مجتمعٌ على الإطلاق ، ولكن القاعدة الأخلاقيَّة أوسع بكثيرٍ من علاقات الجنسين ، فهي تشمل السِّياسة ، والاقتصاد ، والاجتماع ، والفكر ، والتَّعبير ، فالحكم قائم على أخلاقيَّات الإسلام ، وعلاقات النَّاس في المجتمع قائمةٌ على الصِّدق ، والأمانة ، والإخلاص ، والتَّعاون ، والحبِّ ، لا غمز ولا لمز ، ولا نميمة ، ولا قذف للأعراض.

4ـ أنَّه مجتمعٌ جادٌّ ، مشغولٌ بمعالي الأمور لا بسفسافها ، وليس الجدُّ بالضَّرورة عبوساً ، وصرامةً ، ولكنَّه روحٌ تبعث الهمَّة في النَّاس ، وتحثُّ على النَّشاط ، والعمل، والحركة ، كما أنَّ اهتماماته أعلى ، وأبعد من واقع الحسِّ القريب ، وليست فيه سمات المجتمع الفارغة المترهِّلة ، الّتي تتسكَّع في البيوت ، وفي الطُّرقات ، تبحث عن وسيلةٍ لقتل الوقت من شدَّة الفراغ.

5 ـ أنَّه مجتمعٌ مجنَّدٌ للعمل ، في كلِّ اتِّجاهٍ تلمس فيه روح الجنديَّة واضحةً لا في القتال في سبيل الله ، فحسب ، وإذا كان القتال في سبيل الله قد شغل حيِّزاً كبيراً من حياة هذا المجتمع ، ولكن في جميع الاتِّجاهات ، فالكلُّ متأهِّبٌ للعمل في اللَّحظة الّتي يطلب منه فيها العمل ، ومن ثمَّ لم يكن في حاجةٍ إلى تعبئةٍ عسكريَّةٍ ، ولا مدنيَّةٍ ، فهو معبَّأ من تلقاء نفسه بدافع العقيدة ، وبتأثير شحنتها الدَّافعة لبذل النَّشاط في كلِّ اتجاه.

6 ـ أنَّه مجتمعٌ متعبِّدٌ ، تلمس فيه روح العبادة واضحةً في تصرُّفاته ليس فقط في أداء الفرائض ، والتطوُّع بالنَّوافل ابتغاء مرضاة الله ، ولكن في أداء الأعمال جميعاً ، فالعمل في حسِّه عبادةٌ ، يؤدِّيه بروح العبادة ، الحاكم يسوس رعيَّته بروح العبادة ، والمعلِّم الّذي يعلِّم القران ، ويفقه النَّاس في الدِّين يعلِّم بروح العبادة ، والتَّاجر الّذي يراعي الله في بيعه ، وشرائه يفعل ذلك بروح العبادة ، والزَّوج يرعى بيته بروح العبادة والزَّوجة ترعى بيتها بروح العبادة ، تحقيقاً لتوجيه رسول الله (ص) : « كلُّكم راعٍ ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّته».

إن دراسة هذه الفترة من التَّاريخ ينبغي أن تترك انطباعاً لا يمحى في نفس الدَّارس ، انطباعاً بأنَّ الإسلام دينٌ واقعيٌّ قابلٌ للتَّطبيق في عالم الواقع بكلِّ مثاليَّاته ، فهي ليست مثاليَّات معلَّقةٌ في الفضاء لمجرد التَّأمُّل ، أو التَّمنِّي ، ولكنَّها مثاليَّاتٌ واقعيَّةٌ، في متناول التَّطبيق إذا حاولها النَّاس بالجدِّيَّة الواجبة ، وأعطوها حقَّها من الجهد ، ثمَّ انطباعاً بأنَّ ما حدث مرَّةً يمكن أن يحدث مرَّةً أخرى ؛ لأنَّ البشر هم البشر، وقد استطاع البشر دائماً أن يحاولوا الصُّعود مرَّةً أخرى ؛ وسيصعدون حين يعزمون ، وسينالون على ذلك النَّصر ، والتَّمكين.

قال تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ*} [النور:55].


قائمة المصادر والمراجع:

* علي محمد محمد الصلابي، تيسير الكريم المنان في سيرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان، دار ابن كثير، دمشق، ط2، (2009)، صفحة 299:296.

* محمد قطب، كيف نكتب التاريخ الإسلامي، دار الوطن السعودية، ط1، صفحة 103:100.

* تقي الدين أحمد بن تيمية الحراني، مجموعة الفتاوى، دار الوفاء، ط1، (1997)، صفحة 13/20.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس