د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس

مكث الدّكتور محمّد زكي آيدن في تونس نحو 10 أشهر، واطلع على جوانب الحياة فيها، وخبر أهلها وعرفهم عن قرب. وقد نشر مقالاً مطولاً في مجلة كلية الإلهيات التّابعة لجامعة "الجُمهورية"، العدد الأول سنة 1996 تحدّث فيه عن الحياة الاجتماعيّة والثّقافية والدّينية والتعليميّة في تونس في عهد الرّئيس الأسبق بن علي. ونودّ أن ننقل هذا المقال إلى اللّغة العربيّة للاطلاع على رأي هذا المثقّف في ما رآه وعاشه في تونس، وننقل ملاحظاتٍ مهمّة له عن المجتمع التّونسي وعن عاداته وتقاليده، ومن الطّريف الاطلاع كذلك على المقارنة التي يعقدها باستمرار بين المجتمعين التّونسي والتّركي ونقاط التلاقي والاختلاف في مجالات متعدّدة:

محبّة تركيا والأتراك:

لقد أقمتُ في تونس لمدة عشرة أشهر خلال العالم الدراسي 1994-1995 في إطار التّعاون الثقافي بين الحكوميتين التّركية والتّونسيّة، وفي هذه المقالة سوف أعرض ما عايشته في تونس لكي يطلع عليه الإنسان التّركي ويستفيد منه، وهذا واجبنا تجاه تونس والتونسيّين.

يظهر من خلال المقالات والكتب الكثيرة التي كُتبت عن تونس أن أغلب التّونسيّين يحملون بين جوانبهم محبّة صادقة تجاه تركيا والأتراك. وتتبدى مشاعر المحبّة هذه بشكل أكبر لدى كبار السنّ، وتنبع هذه المحبة مما تركه العثمانيّون من مواقف العدل في بلادهم. ذلك أنّ كبار السنّ بالتحديد عايشوا الاستعمار الفرنسي ورأوا مظالمه، وبالمقابل سمعوا قصصًا من آبائهم وأجدادهم عن عدل العثمانيّين. ويوجد كثير من التّونسيّين يفتخرون بأصولهم التركيّة، وألقاب قسم من هؤلاء "تركي". 

بيد أن هؤلاء الذين يقولون إنّ أصولهم تركيّة لا يعرفون من التّركية سوى كلمات قليلة تعدّ الأصابع، وقليل جدّا منهم مازالت علاقاتهم بأقربائهم الأتراك متواصلة حتى اليوم. وأغلب هؤلاء لا يملك من معلومات بخصوص أصوله التّركية غير كون والده أو أمّه أو جدّه أو جدّته ينحدرون من أصول تركيّة. ويقول التّونسيّون إن ثمة شبها كبيرًا بين تونس وتركيا، فالعلم التّونسي يكاد يكون هو نفسه العلم التّركي لولا اختلافات بسيطة، والرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة اتّخذ من مصطفى كمال أتاتورك قدوةً له ومثالاً. وعند الحديث مع التّونسيين عن الأتراك وعن تركيا يتّضح أن معلوماتهم غير كافية وأحيانًا غير سليمة. فالدّعاية الفرنسيّة نشرت قناعةً تفيد بأن ثورة أتاتورك غيّرت ديننا ومسخت لغتنا، بل إن ثمة من يُبادرنا بالسؤال إن كنّا مسلمين أو غير مسلمين عندما نُخبرهم بأننا جئنا من تركيا. 

  وأغنياء تونس يسافرون في العادة إلى الدّول الأوروبّية، أما الطبقة الوسطى منهم وهم السواد الأعظم  فيفضلون زيارة اسطنبول والمكوث فيها من أسبوع إلى عشرة أيام، ويعودون محمّلين بحقائب الملابس، وثمة من بينهم من يمارسون التّجارة بهذه الطريقة. ويفضل كثير من الشّباب المقبل على الزّواج شراء المستلزمات من اسطنبول، ويرجع السبب في ذلك إلى كون التّونسيين معفيّين من التأشيرة إلى تركيا، وهم يعتقدون أنّ الأسعار والنّوعية في اسطنبول أفضل، ويمتدح التّونسيون الملابس النّسائية التي يكون مصدرها اسطنبول ويثنون عليها.  ويقيم أغلب التونسيين عند السّفر إلى اسطنبول في منطقة "لاله لي". وهذه المنطقة تغصّ بأناس من جميع النّحل والملل، ولا تعكس الصورة الحقيقية للإنسان التّركي، ولذلك يرجع بعض التّونسيين حاملين لانطباعات سلبيّة عن تركيا. هذا بالإضافة إلى المعاملات السّيئة التي قد يتعرّضون لها من قبل بعض التّجار.  

الحياة الدّينية

يلخّص أحد أساتذة اللّغة الفرنسية علاقة التّونسي بالدّين وحياته الدّينية بقوله " التّونسيون يمارسون الدّين باعتباره عادةً من العادات"،  بمعنى أن الأوامر والنّواهي الدينيّة تحوّلت إلى عادات وتقاليد، وهكذا اندمجت الواجبات الدّينية بالعادات. ويُلاحَظ في هذا الخصوص الاهتمام الضّعيف بالفرائض والواجبات الدّينيّة.  ولنأخذ مثالاً على ذلك، ففي تركيا تعدّ قراءة القرآن بلا وضوء، أو عدم الاستماع له عند تلاوته بصوت عال عيبًا كبيرًا، بينما الأمر على خلاف ذلك في تونس، ولا يوجد هذا الإحساس نفسه. 

ويمكن فهم الأمر بمثال آخر:  فنحن في تركيا نرى أن تصدير كتابة رسالةٍ بالبسملة والحمدلة يكون بدافع دينيّ، بينما يُعد ذلك في تونس عادة من العادات. وقد نجد صعوبةً كبيرة أحيانًا في فهم بعض المظاهر الأخرى؛ ففي تركيا، وبشكل عام عندما يذهب المرء إلى الحجّ أو يتقدّم في العمر يُطلق لحيته، ويرى البعض أنّ من العيب حلقها، بينما يقلّ كثيرًا عدد الملتحين في تونس. 

وإلى جانب هذا أودّ أن أذكر بعض الفوارق بيننا وبين المجتمع التّونسي. فأغلب التونسيّين على المذهب المالكي، ووفقا لهذا المذهب من المستحب تأخير صلاة الظهر إلى آخر وقتها، ولهذا السبب تجد أن المساجد تفتح أبوابها قبل صلاة العصر بنصف ساعة. وتُصلى الظّهر في جماعة قبل العصر بنحو 10 أو 15 دقيقة، ثم يُؤذن للعصر، وتقام الصّلاة. ثم تُغلق المساجد إلى ما قبل صلاة المغرب بعشر أو 15 دقيقة. ومن أسباب تأخير صلاة العصر  شدّة الحرارة، ففي فصل الصّيف يكون من الصعب جدًا الخُروج وقت الظّهر إلى المساجد للصّلاة في جماعة. وفي المساء كذلك يُغلق أكثر المساجد ما بين صلاتي المغرب والعشاء. ويقال إن من أسباب غلق المساجد على هذا النّحو هو التّوقي مما قد يحدث من أنشطة سياسيّة داخل المساجد كما حصل في أوقات سابقةٍ. ثم إنه للأسباب نفسها طال الإغلاق المساجدَ والمصليّات الموجودة في الجامعات ومساكن الطلاب. وإذا لم تنتبه جيدًا لوقت الصّلاة فقد لا تجد مكانًا تصلّي فيه بعد أن تغلق المساجد أبوابها. وفي مقابل ذلك، يُرفع الأذان بعناية في الإذاعات وقنوات التّلفزيون الرّسميّة حتى أثناء قراءة الأخبار أو خلال بثّ مباريات كرة القدم. ويتم نقل صلاة الجمعة والخطبة مباشرة عبر التّلفزيون والإذاعة، ويُفتتح البثّ الإذاعي والتّلفزي بالقُرآن ويُختتم به. وأود أن أضيف بأن كلمات رئيس الدولة وخطبه الموجّهة إلى الشّعب عادة ما تبدأ بالبسملة والحمدلة والصّلاة على النبيّ. 

وتصلى الجُمعة بالمساجد في فترات مختلفة بين وقت الظّهر والعصر، وأحيانا يقرأ القرآن قبيل الصّلاة، ولا يوجد درس ديني ووعظ كما هو الشّأن لدينا نحن في تركيا. بيد أن الصّلاة عندهم تمتدّ ما بين نصف ساعة إلى ساعةٍ كاملة. وتبدأ صلاة الجمعة في جامع الزّيتونة الواقع في مركز المدينة قبل صلاة العصر بساعة ونصف أو ساعتين، وبعد انتهاء الصّلاة يتحلّق النّاس فيقرأون القرآن أو يذكرون الله مجتمعين، وثمّة من يقرأ القرآن عن ظهر قلب، بينما يقرأه الآخرون من المصاحف. وأما من لا يُحسن القراءة فيكتفي بتكرار ما يحفظه من قصار السّور، ثم يعقب ذلك ترديد "يَا لَطيف".  

  و "يا لطيف" هذه نوع من أنواع الذّكر في تونس. ومثلما هو الشّأن عندنا في تركيا ترديد كلمة "هُو"، ففي تونس يتنشر الذّكر  بقول كلمة "يا لطيف". وهذا النوع من الذكر يُقال في كل مناسبة، وخاصة بعد صلاة الصّبح، وعند أصحاب الطّرق الصوفيّة. وقد سألت بعض أصدقائي التّونسيين أكثر من مرة مازحًا: "إن لله 99 اسمًا، فلماذا اخترتم اسم "اللّطيف" دون غيره"؟ 

وتستعمل كلمة "لطيف" في تونس بمعنى الإنسان الرّاقي صاحب الأدب الجمّ. وبصورة عامة فالتّونسيون أصحاب طبعٍ لطيف جدًّا، ويمكنني أن أورد كمثال على ذلك أنّ من أكثر الكلمات استعمالا بين النّاس كلمة "سامحني" وتأتي بمعنى "المعذرة"، وكلمة "يعيشك" وتأتي بمعنى "حفظك الله". والواقع أنّني لا أبالغ في ذلك، فهذا الموضوع يثير اهتمامنا حقّا. وهذا يجعلنا نتساءل عما إذا كان ذلك من تأثير الرّوح الدّينية في أعماق حياة النّاس.

وعادة ما تحضر النّساء كذلك للصّلاة في تونس، وخصوصًا لصلاة الجمعة. وأكثر الجوامع مفروشة بالحُصر،  وما يشدّ الانتباه نظافة المساجد وخلوّها من الروائح الكريهة. وأُرجع ذلك إلى امتناع النّاس عن لبس الجوارب خصوصًا في أيّام الصّيف الحارّة، واستخدام الحُصر لأنها لا تُمسك الرّوائح. 

ومنارات المساجد في تونس ليست مدوّرة كما هو الشّأن في تركيا بل بُنيت على شكل زوايا مربّعة. وفي بعض مساجد تونس توجد أشكال مخصوصة للمنابر. والمنبر عادة يُخرج من غرفته الخاصة به يوم الجمعة، ثم بعد انتهاء الصّلاة يُسحب إلى الدّاخل مرة أخرى. وفي مساجد كثيرة توجد في جهة القبلة غرفة للإمام ومكان خُصّص لتعليم الأطفال القرآن الكريم. ولا نجد في تونس من يقرأ القرآن أو يؤذّن للصّلاة بصوت جميلٍ، وربما لهذا السّبب استعاضوا عن ذلك باستخدام آلات التّسجيل في رفع الأذن وفي قراءة القرآن على حدّ سواء.  

  والموسيقى الدّينية في تونس غير متطوّرة بالقياس إلى ما هو موجودنا في تركيا. وما نلاحظه أنه لا يوجد اهتمام خاص بهذه النوع من الفنّ، وهذا الأمر مقصور على بعض الفنّانين والفنانات الذين يغنّون بعض الأغاني ذات المحتوى الدّيني ويسمونها "ابتهالات". ويمكن القول إنّ أكثر التونسيّين يقيمون اعتبارًا كبيرا لشهر رمضان. وتصلى التّراويح في العادة 20 ركعة، ويتم فيها ختم القرآن الكريم. والتّونسيّون يحتفلون في ليالي رمضان في مراكز المدن بطرق مختلفة، ويذكر التّونسيون أنّ هذه الاحتفالات في الماضي كانت تمتد لوقت أطول حتى تُجاوز منصف اللّيل. 

وتأسست في تونس قبل سنوات وزارة للشّؤون الدّينيّة، والمفتي التّابع للوزارة منُوط بعهدته إعلان مواعيد الأعياد وتنظيم شؤون العباد في البلاد. وأذكار الطّريقة الشّاذلية في تونس منتشرة في البيوت والمساجد. وباستثناء الأنشطة التي تنظمها الدولة في الأعياد والمناسبات الدينية لا نكاد نلاحظ أنشطة أخرى. ويفضل التونسيّون إلقاء التحيّة على بعضهم البعض عند اللقاء بكلمة "سلام" بدل قول "السّلام عليكم". (الحلقة القادمة: التّربية والتّعليم في تونس)

عن الكاتب

د. مصطفى الستيتي

باحث متخصص في التاريخ العثماني.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس