سعيد الحاج - TRT عربي

بات الوباء الذي تسبب به فيروس كورونا المستجد حديث العالم بأسره بعد أن انتقل إلى معظم دوله. فالفيروس، الذي يمر بسلام على الغالبية العظمى ممن يصيبهم وخصوصاً إن كانوا من الأصحاء وصغار السن بحيث لا يشعرون بإصابتهم أو يكتفون بأعراض طفيفة، يتسبب بنتائج وخيمة على المجموعات الأضعف مثل المسنين وأصحاب الأمراض المزمنة وضعيفي جهاز المناعة.

بيد أن الاهتمام الأكبر للدول ينصب بالدرجة الأولى على التداعيات الجماعية الأكبر لا الفردية السابقة، وخصوصاً ما يتعلق بالاقتصاد وكفاءة النظام الصحي.

ذلك أن سرعة انتشار المرض تفرض ضغطاً كبيراً وغير مسبوق على القطاعات الصحية خلال فترة زمنية وجيزة، ما يتهدد بعضها بالعجز و/أو الانهيار كما حصل في بعض الدول أو بعض مناطقها. كما أن هناك تداعيات اقتصادية جدية للوباء من جهة وللإجراءات التي تتخذها الحكومات لمواجهته من جهة أخرى، وخصوصاً قطاعات مثل السياحة والطيران والمصارف والتجارة الخارجية وغيرها.

من هذا المنطلق، تتمثل الاستراتيجية الرئيسة لمعظم دول العالم بمحاولة كسب أكبر قدر من الوقت، في انتظار التوصل لعلاج أكثر نجاعة للمرض وهو الأقرب منطقاً وزمناً أو لقاح وقائي للفيروس وهو الأبعد زمناً وإمكاناً. وفي الأثناء تعتمد الدول مسارين، الأول محاولة إبطاء انتقال العدوى ما أمكن بحيث يمتد ضغطه على القطاع الصحي على فترة زمنية أطول ليبقى قادراً على القيام بأعبائه. ذلك أن انهيار القطاع الصحي لأي دولة سيكون له تداعيات كارثية ليس فقط صحياً وإنما كذلك اجتماعياً وأمنياً واقتصادياً. والثاني محاولة تقليص تداعياته الاقتصادية السلبية ما أمكن.

يفسر ذلك الإجراءات الاحترازية المتدرجة التي تقوم بها حكومات دول العالم لمحاولة الحد من انتقال العدوى، بما في ذلك الإجراءات المرتبطة بالعالم الخارجية مثل إلغاء رحلات الطيران وإغلاق الحدود البرية وكذلك المتعلقة بالوضع الداخلي مثل وقف الأنشطة ومنع التجمعات الكبيرة وتحديد خروج الناس للشوارع لمنع الاحتكاك.

تعد تركيا من الدول التي سجلت فيها حالات مَرَضية في وقت متأخر نسبياً، فقد أعلن وزير الصحة فخر الدين كوجا عن أولى الإصابات في العاشر من آذار/مارس الحالي. بيد أن وتيرة ارتفاع أعداد المصابين بدت سريعة جداً في الأيام القليلة الأخيرة.

فقد وصل عدد الحالات المشخّصة إلى 9217 وعدد الوفيات إلى 131 يوم أمس الأحد، كما أن نسبة الحالات لعدد الفحوصات المجراة ارتفع مؤخراً من %8-10 إلى %27 يوم الجمعة قبل أن يعود لنسبة %18، ما أثار بعض المخاوف، الأمر الذي يتطلب توضيح النقاط التالية:

الأولى، بعض الزيادة في أعداد المرضى يمكن إرجاعها للزيادة المضطردة في عدد الفحوصات المجراة خلال الأيام القليلة الماضية، لكنها ليست السبب الوحيد، ولا الأهم مؤخراً. ذلك أن تركيا قد دخلت في مرحلة تسارع انتشار المرض وفق المنحى المشاهد في كل الدول قبل أن يصل لمرحلة “الذروة” التي يمكن بعدها انتظار تراجع وتيرته.

الثانية، ثمة فائدة كبيرة لزيادة عدد الحالات المشخصة من خلال إجراء الفحوصات لأكبر شريحة ممكنة، لا سيما إذا ما ترافق ذلك مع علاجهم وعزلهم ومتابعة من احتكوا بهم. علماً أن وزارة الصحة تستهدف رفع عدد الفحوصات اليومية إلى 15 – 20 ألفاً، وهو أمر سيكون له فائدة كبيرة إن تم، بل ينبغي رفعه لأكثر من هذه الأرقام بكثير.

الثالثة، ليس عدد الإصابات هو المعيار الوحيد ولا الأهم لتقييم انتشار المرض في بلد ما ومدى كفاءتها في مواجهته. بل لعله سيكون معياراً مضللاً إن اعتمد وحيداً في التقييم، حيث أن هناك دولاً تسجل أعداداً قليلة من المرضى لأنها لا تجري الفحوصات الكافية وليس لأن المرض غير منتشر فيها، والعكس صحيح. مثلاً، نسبة الإصابات لكل مليون من السكان يبدو معيار أكثر دقة نسبياً، حيث ما زالت أقل من 25 مريضاً لكل مليون من السكان في تركيا، بينما هي في حدود 250 في الولايات المتحدة وأكثر من 1000 في إيطاليا مثلاً.

وفي هذا الإطار، تبدو الوفيات معياراً أفضل للتقييم، إن كان من جهة العدد المجرد أو نسبتها لعدد الإصابات. من هذه الزاوية، ما زال منحنى الزيادة في عدد الوفيات في تركيا غير حاد، كما أن نسبة الوفيات للإصابات قريبة من %1.6 وهي نسبة غير مرتفعة بالمقارنة.

الرابعة، قال الوزير إن غرف العناية المركزة في المشتفيات التركية مشغولة اليوم بنسبة %62-63، وهي نسبة مرتفعة ولا شك ومرشحة للارتفاع أكثر في الأيام والأسابيع المقبلة مع ارتفاع أعداد المرضى. بيد أنه من المهم الإشارة إلى أن نسبة الموضوعين على أجهزة التنفس الصناعية فيها حوالي %70 ما يعني أن هناك مرونة متبعة حالياً فيها يمكن الاستفادة منها لاحقاً، كما أن الوزارة تستعد لتجهيز ما يقرب من 100 ألف غرفة على مستوى البلاد لتكون مستقبلاً إما غرف عناية مركزة أو عزل، حسب الوزير.

كل ذلك لا يعني أن الصورة وردية ولا أنها ستبقى على ما هي عليه، فالمرض آخذ بالانتشار وتزداد معه يومياً أعداد المرضى وبالتالي أولئك المحتاجين لرعاية طبية متقدمة وكذلك أعداد الوفيات، وبوتيرة قد تتسارع بشكل كبير قريباً. وهو ما يؤكد على الأهمية القصوى للالتزام بإجراءات السلامة والوقاية المتعلقة بالحفاظ على المسافة الاجتماعية أو التباعد الاجتماعي وكذلك على الوقاية والنظافة.

لقد تدرجت الخطوات الحكومية التركية منذ الإعلان عن الحالة الأولى بل حتى قبلها، من التوصية بالإجراءات الفردية إلى وقف معظم الأنشطة العامة والتجمعات وصولاً لحزمة القرارات الأخيرة. فقد أعلن الرئيس التركي عن وقف التنقل بين المحافظات إلا بإذن استثنائي من الولاة/المحافظين ووقف الطيران الخارجي تماماً ومنع التجمع في المنتزهات والحدائق وغيرها من الخطوات، بينما أعلنت الخطوط الجوية التركية عن وقف معظم الرحلات الداخلية بين المدن.

السمة العامة لهذه الإجراءات تشي بأنها عملية عزل صحي لكل محافظة على حدة خصوصاً المدن الكبرى الثلاثين، والتي يفترض منطقياً أنها تحوي الغالبية العظمى من الحالات، ولكنه عزل اختياري ونسبي غير معلن في الوقت الحالي. لكن تصريحات اردوغان ومن قبله وزير الصحة تحمل تحذيراً بأن عدم التزام الناس الطوعي بهذه الإجراءات إضافة لتوصية التزام المنازل قد يضطر الحكومة إلى خطوات إضافية متقدمة.

يعني ذلك أن خطوات من قبيل إعلان بعض المحافظات أو المدن مناطق صحية معزولة أو فرض حظر التجول فيها قد يكون على جدول أعمال الحكومة ما لم تؤت القرارت الأخيرة أكلها في إبطاء سرعة انتشار الوباء.

ولذا، تقع على عاتق كل فرد مقيم على الأراضي التركية مسؤولية ضخمة في الالتزام حرفياً بقرارات الحكومة وتوصيات وزارة الصحة وتوجيهات الهيئة العلمية التابعة لها، لكي لا تخرج الأمور مستقبلاً عن السيطرة ما سيكون خطره لو حصل كبيراً وشاملاً للجميع من زوايا عدة وليس فقط صحياً.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس