باسل بن محمد - خاص ترك برس

في حقيقة الأمر أن قضية التمرد هي حالة تاريخية في عقيدة أفراد المذهب الزيدي، بل إن البعض منهم يعتبر التمرد وسيلة للحصول على مغانم ومكاسب، لذك نجد فكرة التمرد كانت حاضرة في تاريخ أتباع هذا المذهب على الدوام، وكان هذا التمرد يستمر وتزداد وتيرته طردياً بسوء إدارة بعض الولاة العثمانيين لولاية اليمن.

بعد إعلان الإمام المنصور إمامته في صعدة وخلال عام واحد تمكن من السيطرة على معظم المناطق الشمالية لصنعاء، ثم توجه لحصار صنعاء نفسها، وعملت الدولة العثمانية حينها على إرسال قوات لمواجهة المقاومة اليمنية بقيادة المشير أحمد فيضي الذي أتى للمرة الثانية غير أنه لم يحقق نصرا حاسما لعوامل عديدة، أهمها الطبيعة الجبلية للمناطق الشمالية. لقد استغل الإمام المنصور فترة مكوثه في صنعاء بالتعرف على طريقة تفكير الإدارة العثمانية ومعرفة الأخطاء التي كانت ترتكب في حق الأهالي، بعد ذلك تمكن الإمام المنصور من تأليب القبائل للتحرك ضد القيادة العثمانية تحت شعار الواجب الشرعي لإعادة تحكيم الشريعة الإسلامية ورفع الظلم. بدأ الإمام المنصور تمرده العسكري بمواجهات مسلحة ضد العثمانيين استطاع خلالها تحقيق مجموعة من الانتصارات في السنوات الأولى من حكمه، وكان من بين معاركه مهاجمة خطوط التلغراف وتخريبها نظراً لأهميتها بالنسبة للعثمانيين في نقل الأخبار، وشرع بعد ذلك بحصار صنعاء الذي لم ينفك إلا بقدوم أحمد فيضي باشا على رأس قوة عسكرية كبيرة مكنته من استعادة السيطرة على المناطق التي سيطر عليها الإمام. استطاع الإمام المنصور إعادة تشكيل مجامعي المتمردين على الحكم العثماني تحت رايته من جديد، ثم عاد بعد ذلك مرة أخرى لمحاصرة مدينة صنعاء.

حصار الإمام المنصور لمدينة صنعاء 1892

قبل حصار صنعاء عام 1892م اندلعت العديد من المواجهات بين القبائل اليمنية ضد الدولة العثمانية، كان منها محاربة الإمام المنصور للأتراك في بلاد الأشراف في سنة 1890م والذي تمكن من هزيمتهم وقتل قائد الحامية التركية هناك، لقد كان لهذه المعركة أسوأ الأثر لدى الأتراك العثمانيين في اليمن في ذلك الوقت.

كما ثارت أيضاً قبائل همدان سنة 1891 م بزعامة الشيخ يحيى بن يحيى ضد الأتراك العثمانيين فصدرت الأوامر من صنعاء لإخماد ثورتهم، وتوجه القائد العثماني علي باشا يرافقه الشيخ محمد بن علي الشويع شيخ قبائل ضلاع إلى قاع المنقبة حيث التحموا مع قبائل همدان التي كان يقودها السيد أحمد بن محمد الشرعي الحسني ومعه جموع كثيرة من القبائل اليمنية، حيث نشب بين الفريقين قتال عنيف في عهد الوالي العثماني حقي باشا.

عقب وفاة الوالي إسماعيل حقي باشا عام 1891م ثارت القبائل اليمنية ضد الأتراك في معظم أرجاء اليمن وبخاصة بلاد البستان وهي مخلاف كبير يقع غربي مدينة صنعاء ويجاور آنس والحيمة وهمدان وسنحان، وقد قامت القبائل هناك بانتزاع أسلاك البرق وأعمدته، كما نهبوا البريد الوارد من الأستانة إلى صنعاء عاصمة الولاية، وقد سبقت هذه المناوشات عملية محاصرة صنعاء التي تمت بعد أن انهزم الأتراك وتراجعوا أمام هجمات القبائل اليمنية.

اتجهت القبائل اليمنية إلى محاصرة صنعاء في أوائل سنة 1892م ونشب قتال عنيف بين جموع الأتراك المهزومين حتى دخلوا إلى باب "قاع اليهود" في غرب صنعاء، وأغُلقت حينها جميع أبواب المدينة وسيطر الخوف على أهلها وعلى الأتراك المحاصرين فيها، وبعد أيام من محاصرة صنعاء دار قتال عنيف بين القبائل اليمنية والأتراك بالقرب من جبل نقم، كما حدث قتال آخر في جنوب صنعاء فوق أماكن القبور، لقد كان الاعتقاد السائد لدى العثمانيين في ذلك الحين أن الدسائس البريطانية هي التي حركت الثورة ضدهم في اليمن.

معاناة اليمنيين جراء حصار الإمام المنصور لصنعاء

لقد ذاق أهالي صنعاء اليمنيون الذل والهوان في أثناء محاصرة القبائل اليمنية للمدينة، وإذا كان قد قُدر لرجال القبائل أن يدخلوا صنعاء منتصرين، إلا أنهم انتقموا من إخوانهم اليمنيين وليس من الأتراك العثمانيين فحسب، لأن رجال القبائل ظنوا أن سكان المدينة قد تواطأوا مع القوات التركية ضدهم، بينما كان الأتراك يعتقدون أن أهالي صنعاء هم المحرضون لإخوانهم من رجال القبائل المتمردة، وهكذا وقع أهالي صنعاء بين شقي الرحى، ويذكر الواسعي في تاريخه أن أهالي صنعاء كانوا "يبتهلون إلى الله  تعالى بالدعاء في المساجد وبقراءة القرآن وقراءة سورة يس بصوت واحد بين العشاءين في كل ليلة وفي كل مسجد وعقب صلاة الجمعة، وحصل للناس ضيق شديد بالحصار لعدم كفاية الطعام، فمن كان له طاقة وقدر على السير ومعه ما يقوم بمؤنته هو وأهله قعد في صنعاء مع الخوف، وقد باع الناس أموالهم ومتاعهم بثمن رخيص مقابل الحصول على القوت، ومن لم يقدر على الجلوس في صنعاء خرج هو وأهله وظن أنه يخرج من الظلمات إلى النور، فإذا خرجوا التقاهم القبائل الذين عاثوا في الأرض فسادا وبغوا على إمام الحق (يقصد الإمام المنصور محمد بن يحيى حميد الدين) بغياً وعتاداً فيما أمرهم به من تأمين الطرقات وإعانة الضعفاء والمساكين وإغاثة الملهوف والمكروب من المسافرين، لقد ارتكبوا أنواع الفضائح وأغضبوا الرب تعالى بفعلهم القبائح، لقد هتكوا الأنفس والأعراض وتركوا الواجبات وارتكبوا المحرمات، كلما خرج إنسان من صنعاء نهبته القبائل وأخذوا ما معه، وإن وجدوا امرأة هتكوا عرضها". وهكذا كانت حالة أهالي صنعاء أثناء حصار القبائل للمدينة، بينما الأتراك في داخل صنعاء كانوا على شك وريب منهم مع ندرة الأقوات وارتفاع الأسعار وانتشار المجاعات، وقد اشتدت وطأة الحصار حول صنعاء وتعز واستمر محكماً لمدة شهرين ونصف، فشلت خلالها القوات التركية المحصورة في دحر القبائل المُحاصِرة، وبعد حروب قاسية بين الطرفين هدأت شدة المواجهات وخف الحصار على الرغم من أن بعض الحاميات التركية الضعيفة استسلمت للقبائل المُحاصِرة. لا شك أن حصار القبائل لصنعاء عاصمة الولاية العثمانية كل هذه الفترة واحتلال رجال القبائل للكثير من المقرات الحكومية والقائهم القبض على كثير من المديرين وكبار الموظفين الأتراك وإرسالهم أسرى إلى الإمام الزيدي، شكل صورة واضحة المعالم عما آلت إليه الأوضاع من سوء واضطراب وصل لها الحكم العثماني في اليمن نتيجة ممارسات خاطئة قاموا بها أدت إلى إسقاط هيبتهم وزلزت دعائم حكمهم.

وصف الرحالة الإنجليزي "هاريس" مدينة صنعاء أثناء الحصار

وصف الرحالة "هاريس" هذا الحصار بقوله: "إن رجال القبائل كانوا يطلقون نيران بنادقهم على شوارع المدينة من مراكزهم فوق جبل نقم الذي يسيطر على صنعاء سيطرة تامة، غير أنه لم يكن لدى رجال القبائل المُحاصِرة لصنعاء أي مدفعية ضاربة، كما لم تمكنهم جهودهم من الاستيلاء على منفذ يؤدي بهم إلى اقتحام المدينة، وقد أطلقت القوات العثمانية المتحصنة في قعلة صنعاء نيران مدافعها بصفة منتظمة على مواقع رجال القبائل المحاصرين للمدينة، مما ساعد العثمانيين على الخروج من البوابة الجنوبية والاتجاه شمال صنعاء، حيث نشبت معركة عنيفة بينهم وبين رجائل القبائل رجحت فيها أخيراً كفة الترك وتمكنوا من طرد رجال القبائل الذين اضطروا إلى التقهقر إلى قرية صغيرة قريبة من أسوار صنعاء، تمكنت أيضاً هذه القوة من صد هجوم مضاد قام به رجال القبائل، وبذلك تقهقرت القبائل المُحاصِرة لصنعاء بعد أن خلفوا آلافا عديدة من القتلى في ميدان المعركة، الذين تسببت جثثهم في انتشار الأمراض بين سكان صنعاء وصارت رائحة الأجسام المتحللة تزكم الأنوف ولم تكد تعود القوات العثمانية إلى صنعاء حتى عاد رجال القبائل لاحتلال مواقعهم مرة أخرى فوق جبل نقم، غير أن قيامهم بهجوم ناجح على صنعاء أصبح أمرا ضعيف الاحتمال بعد الخسائر المادية والمعنوية التي أوهنت من قواهم ومعنوياتهم.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس