عبد الناصر يوسف - خاص ترك برس

في سنة 2007 واجه العالم بأسره أخطر مشكلة في العصر الحديث، لو استفحلت لقضت على جميع أركان الحياة العصرية التي شهدها الإنسان خلال المئة والعشرين سنة الماضية.

بعد أن طبق ريغن وتاتشر خطبتهما المعروفة في عدم التدخل الحكومي في آليات السوق على أساس أن ترك أصحاب الأعمال والمدراء  يديرون المؤسسات بناءً على ما تقتضيه المصلحة لكل منهم فلا بد من أنهم سوف يحافظون على سيرورة عمل منظمة تؤمن في النهاية مصلحة الجميع وبالتالي المصلحة العامة.

في سنة 2007 اعترف ألان غرين سبان محافظ البنك الاحتياطي الفدرالي أنه كان مخطئا لإيمانه الشديد بهذه النظرية التي أوصلت النظام المصرفي العالمي إلى شفا الانهيار جراء تغوّل المؤسسات المالية وجشعها وعدم مبالاتها بالمصلحة العامة، حيث كان الهدف الأساسي لا شيء غير تعظيم قيمة الشركة السوقية.

كانت التقارير التي تأتي الى عناية غوردن براون من هيئة مراقبي أسواق المال تشي بأن ثمة كارثة تهدد النظام المصرفي، ولكن كانت توصيات براون بأن "لا تحاولوا إصلاحها لأنها لم تتوقف بعد" (it is not broken yet do not fix it)، الى أن حصل ما حصل عند إعلان مصرف "Northern Rock" عن تعثره، عندها تدخلت الدولة وأبدت استعدادها لضمان كل الودائع في كل المصارف، وانتقلت العدوى إلى المصارف الأمريكية، وخلال أيام جمع براون زعماء "العشرين" ليقول لهم "إما أن نكمل المسيرة  معاً أو ننهار معاً"، وحصل فعلًا على الدعم والاستثمارات المطلوبة لإنقاذ النظام المصرفي، وليس لإصلاحه، لأن الإصلاح عملية مكلفه جداً لا يستطيع أي رئيس حكومة أن يواجه عواقبها سيما وأن ميزانية مصرف واحد أساسي تحتوي على عقود ماليه غاية في التعقيد تفوق قيمتها ميزانية الحكومة نفسها.

أغلب هذه العقود وليدة تضافر علمي الإحصاء وتقانة المعلومات، ووجدت فيها البنوك مصدر تربح هائل يصل عائده إلى أكثر من ثلاثة آلاف بالمئة على أبسط تقدير، فبنت هذا المصارف إمبراطوريات مالية يصعب حتى تقييمها وفهمها من قبل منظمي أسواق المال والمدققين، وهذا ربما ما عجّل  بشركة "Enron" إلى الانهيار سنة 2000 لأن المحاسبين عجزوا عن تقييم عقود المشتقات المالية التي قامت على أساس مواد الطاقة من النفط وغيرها.

شكلت هذه الأسواق جبالا من الثروات الناتجة عن عمليات مالية لا تفرز إلا الأرقام الناجمة عن تداول الأرقام إلكترونيًا فقط، وبذلك تضاعفت فقاعة الوهم جراء تمدد الاقتصاد الوهمي غير المنتج، وأصبح يشكل هذا الوهم فقاعة قابلة للانفجار. بأي وقت، ورغم مرور أزمة عام 2007 على خير، فإن التهديد ما يزال قائما ولم يطرأ اي إصلاح بنيوي على سوق المال.

تركيا البلد الذي استفاد من الائتمان الأوربي وحسن الإدارة التي قادها حزب العدالة والتنمية حافظت على الصناعات التقليدية ذات الصلة المباشرة بالاقتصاد الحقيقي، أي الاقتصاد المنتج الذي يضيف قيمة اجتماعية إلى القيمة الاقتصادية لأي عملية دوران لرأس المال، ورغم تطور الأتمتة وتطور سوق المال ونمو الشركات أفقياً وشاقولياً لم يتم استغلال ذلك في اشتقاق أدوات مالية كما جرى في الغرب، وبقيت الأسواق المالية على بساطتها، وهذا ربما وضع حداً للخسائر التي منيت بها أسواق المال والعملة التركية إثر الأزمات السياسية المتعاقبة في العقد المنصرم.

ما يجعل تركيا صامدة أيضاً أثناء الأزمات - كالأزمة التي تمر بها الآن - هو ذلك التنوع في الإنتاج  الصناعي، وامتداد تركيا على مساحات واسعة تؤمن لها تنوعا مناخيا ومصادر مياه تضمن قطاعا زراعيا مستقرا، واستفادت تركيا من قطاعها الزراعي بسبب تمكنها من تسويق منتجاتها الزراعية في دول أوربا ودول الجوار.

في الحديث عن الصمود الاقتصادي أيضاً لا بد من ذكر أن العمود الفقري للاقتصاد التركي هو الثروة البشرية الشابة التي تفتقر إليها أوروبا عمومًا، والشباب التركي صاحب موروث معروف في حبه للعمل الدؤوب وتمرسه على المشاق، ولم يعتد على الاتكال على الضمان الاجتماعي المعروف في أوربا والغرب عموماً، وكما وصف المؤرخ ابن خلدون الأتراك أنهم قوم أقوياء الشكيمة في الحرب فهم أيضاً أقوياء الشكيمة في العمل.

عندما تلقي الأزمة الحالية بذيولها أكثر على كل المناحي الاقتصادية سوف يظهر التميز عند الدول الأكثر التصاقًا بالإنتاج الاقتصادي الذي يمت مباشرة إلى حاجات البشر أولاً ويهيئ لهم فرص العمل ثانياً، وبذلك تضمن دولة كتركيا تفوقها من خلال القدرة على النهوض والمتابعة بصورة أسرع لأن طبقاتها الاقتصادية أقل كثافة وأكثر وضوحًا ومرونة من الدول التي تعتمد في إقلاع اقتصادها على الائتمان بالدرجة الأولى وأداء أسواقها المالية والزخم الاستثماري الخارجي المرافق لذلك.

ولا يستطيع أحد أن ينكر أن تركيا وريثة إمبراطورية، وحضارة عميقة، وتشكل مركزاً حضارياً لمحيطها وبيئتها شاء من شاء وأبى من أبى، وهذا ما سوف يعطي تركيا الأهمية القصوى لتكون الرأس الذي يمثل الحضارة الإسلامية فيما لو جرى رسم خارطة العلاقات الدولية الجديدة على أساس التوزيع الحضاري كما أشار صومويل هنتغتون في كتابه صدام الحضارات.

لتركيا دور جديد سوف تقوم به بجدارة، وربما تكون من الدول التي تخرج معافاة وأكثر ريادة من ذي قبل.

عن الكاتب

عبد الناصر يوسف

استشاري اقتصادي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس