باسل بن محمد - خاص ترك برس

عندما علم السلطان عبد الحميد الثاني بتمرد بعض القبائل اليمنية ضد الأتراك بزعامة الإمام الزيدي المنصور بالله محمد بن يحي، رأى أن يتبع معهم الأسلوب الدبلوماسي علّه يصل إلى حل مرض للقضية اليمنية، فكتب السلطان إلى الإمام يدعوه إلى الكف عن إراقة الدماء من جهة، ويرهبه من قوة الجنود الأتراك الذين لا قبل لهم بقتالهم لشدة بأسهم وحداثة أسلحتهم من جهة أخرى، ثم يغريه بأنه سيقّرر له راتباً شهرياً وسيمنحه مرتبة عظيمة بين رجال الدولة، ويذكر الواسعي أن الإمام المنصور أجاب السلطان عبدالحميد بما معناه: "ما خرجنا من صنعاء لطلب الملك والرياسة إلا لنصرة شريعة جدنا والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنع ظلم الرعية من المأمورين وارتكاب المحرمات وشرب الخمور وظهور الزنا والفجور وترك الحدود التي أمر الله بها من القصاص وقطع يد السارق وجلد الزاني والشارب، وغير ذلك مما أبطلها القانون المخالف للشريعة المطهرة".

ويضيف الواسعي إلى ذلك قوله بأن الإمام المنصور ذكر في نهاية الرسالة: "أنه قد تحتّم الوجوب على الإمام بالقيام على المظلوم من الظالم"، ثم أخذ الإمام المنصور يمدح السلطان العثماني لمحافظته على الإسلام والدفاع عن البلاد الإسلامية كما أوضح أساليب الحكم الظالمة التي يتبعها الموظفون الأتراك في اليمن وسوء إدارتهم لشئون البلاد. لقد وصل العثمانيون إلى قناعة راسخة مفادها أنه لا بد من التفاوض مع الإمام المنصور عبر أحمد الفيضي، إلا أن أحمد الفيضي لم يستطع أن يصل معهم إلى حل، حاول العثمانيون بعدذ ذلك إيفاد عدد من الوفود والوسطاء من خارج اليمن منهم شخصيات عربية وإسلامية لإقناع الامام المنصور إلا أن تلك المحاولات أيضاً لم تفلح في جمع الطرفين على حل.

وفاة الإمام المنصور وشروط الإمام يحيى للصلح

في العام 1904م توفي الإمام المنصور وخلفه إبنه الإمام يحيى بن محمد حميد الدين الذي تلقب "بالمتوكل" والذي ورث من أبيه نزعة القيادة والتمرد في وقت واحد، حيث واصل قيادة المقاومة ضد العثمانيين وتمكن من إسقاط معظم المدن الشمالية، كما تمكن أيضاً من حصار العاصمة صنعاء ودخولها، إلا أنه لم يلبث طويلاً وخرج منها عند اقتراب الجيش العثماني الكبير بقيادة أحمد فيضي باشا لصنعاء، الذي تمكن هو الآخر من استعادة بعض المناطق الهامة شمال صنعاء، بعد تكّبده خسائر فادحة، غير أنه وقف عاجزاً  أمام حصن "شهارة" مقر قيادة الإمام يحيى.

 طبيعة العلاقات بين العثمانيين واليمنيين لم تتغير بتولي الإمام يحيى الإمامة الزيدية في اليمن سنة 1904م بل ظلت كما هي عليه نتيجة انتهاج السياسة نفسها التي اتبعها والده الإمام المنصور الذي قامت سياسته على معاداة العثمانيين لإجبارهم بالوضع الخاص للأئمة في اليمن، وحقهم في الاستقلال بإدارة شئونهم في إطار من التبعية لسيادة الدولة العثمانية وهو الأمر الذي حاول التمسك به من قبله من الائمة.

تجُدر الإشارة هنا إلى أن المذهب الزيدي هو أكثر المذاهب الشيعية اعتدالاًً وأقربها إلى مذهب أهل السنة والجماعة، وأهم ما يمتاز به عن بقية المذاهب الشيعية عدم المبالغة في تقديس علي رضي الله عنه الذي جعلوه في مصاف الآلهة كما هو الحال مع بعض الفرق الشيعية الأخرى، وعلى الرغم من أن أتباع الزيدية قصد حصروا الإمامة في أولاد فاطمة فإنهم لم يقصروها على فرع معين، بل أجازوا لكل فاطمي، عالم، زاهد، شجاع، سخي، خرج بالإمامة أن يكون إماماً واجب الطاعة سواء كان من أولاد الحسن أو الحسين، وهم بذلك يرفضون الفكرة القائلة بأن لا إمام بعد الإمام الثاني عشر، وعلى الرغم من اتفاق الزيديين مع جمهرة الشيعة في أحقية علي رضي الله عنه وأبنائه من فاطمة رضي الله عنها بالإمامة، فإنهم يقولون بجواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل والأفضل.

وضع الإمام يحيى شروط مقترحة للصلح بينه وبين الدولة العثمانية عام 1906م ومما جاء فيها: "وافقت مستمداً بعون الله تعالى على شروط الصلح بيني وبين مأموري سلطان الإسلام الذي أدعو الله أن يؤيد ملكه لإطفاء نار الحرب الموقدة، وأن تستبدل الفوضى والعداوة بالصداقة، لتسلم البلاد من القلاقل وتحق الدماء".

كان الإمام يحيى حريص على تبجيل السلطان في مخاطباته وإظهار الاحترام، كما أنه لم يكن يحمل السلطان ما كان يحدث من أخطاء وكان يفرق بين السلطان وبين رجال الدولة.

في الوقت نفسه كان الإمام يحيى قد طلب في أحد رسائله للسلطان أن يعيد حكم اليمن إليه من جديد وتحت راية الدولة العثمانية، معللاً بذلك أن اليمن كان يُحكم على الدوام من أهل البيت.

باستقراء مجريات التاريخ، نجد أن العلاقة بين القوتيين الرئيسيتن في اليمن وهما الزيدية والعثمانية قد اتخذت طابع الحرب والسلم، إلا أنه غلب عليها طابع الحذر والتوتر، وهو ما كان يؤدي قطعاً إلى الاحتكاك بينهما.

لقد أولى العثمانيون عنايتهم الفائقة لإيجاد عمق استراتيجي لهم في داخل اليمن، كان من شأنه حماية ممتلكاتهم وثكناتهم على السواحل اليمنية التي تعد القاعدة الاستراتيجية التي مكنتهم فيما بعد من مد سيطرتهم على باقي نواحي اليمن إضافة إلى أنها مثلت لهم قاعدة للإمداد العسكري للقضاء على أية أخطار تهدد قواتهم في داخل البلاد، فيما كان يرى الزيديون أن العثمانيين باتوا يشكلون العقبة الرئيسية التي تحول دون تمكنهم من بسط نفوذهم على كامل رقعة اليمن.

حصار صنعاء للمرة  الثالثة سنة 1904

عرض المؤرخ اليمني الواسعي في تاريخه صورة واضحة المعالم لمدينة صنعاء أثناء الحصار الذي فرضه الإمام يحيى وأتباعه عليها سنة 1904 فقال: " تجمعت القبائل على صنعاء وتكاثرت، وضاقت على أهلها الأرض بما رحبت، واشتد الحصار، وخرج الناس الصغار والكبار والنساء المخدرات، وقاسوا عظيم الأهوال، وباعوا جميع الأموال والأمتعة والفراش، وكان الثمن في  غاية الرخص لعدم وجود المشتري، حتى أن بعضهم يؤجر الحامل إلى السوق ويعجز عن أجرته ثم لا يجد مشترياً ثم يأخذ الحامل نصف ما حمل، كما عم الجوع اليمن بسبب الفتن، وبالمحاصرات ترك الُّزراع الزراعة، وخلت من اليمن قرى كثيرة مات أهلها من الجوع، وفي (خولان) كانوا يأكلون التبن بعد طحنه، ومات في قرية (القابل) خارج صنعاء 16 مائة (يقصد 1600 نسمة) غير الذين ماتوا في سائر القرى حول صنعاء، ووجد في وادي (سهام) على قارعة الطريق موتى 51 نفساً، وفي داخل صنعاء أمر المفتي البوليس وطائفة من الجند أن يهجموا بيوت التجار  والأعيان من أهل صنعاء ومن كان منظوراً إليه باليسار يأخذوا مالديهم من الحبوب لأجل عساكر الدولة وأخذ كل شئ يؤكل".

وإزاء وطأة الحصار الشديدة حول مدينة صنعاء، وعدم وصول إمدادات ذات أثر فعال، فإن عدداً غير قليل من الأتراك ومثلهم من كبار أهالي صنعاء اقتنعوا بضرورة التسليم حفاظاً على أرواح سكان المدينة وعلى الحامية العثمانية فيها من الفناء، حيث توجه بعض هؤلاء لمقابلة الإمام يحيى في كوكبان للاتفاق على عقد هدنة وعلى شروط تسليم المدينة، فأرسل الإمام إليهم سيف الإسلام أحمد بن قاسم الدين للاتفاق معهم بينما انتقل هو إلى قرية "القابل" الواقعة في الشمال الغربي من صنعاء إذ تم الاتفاق على خروج الأتراك من صنعاء إلى "حراز" على أن يتركوا للإمام يحي أموال الحكومة وأسلحتها، في المقابل يقوم الإمام بنقل أمتعتهم وتأمين طريقهم، وبذلك استطاع الإمام يحيى دخول صنعاء في 21 نيسان/ أبريل سنة 1905 م، كما أعلنت كثير من البلدان اليمنية اعترافها وطاعتها لإمامته، بينم لم يبقَ مع الأتراك سوى مدينتي تعز وإب وبلاد حراز والتهائم وقفلة شمر، وذلك وفقاً لشروط الهدنة المؤقتة التي تم الاتفاق عليها بين العثمانيين والإمام يحيى.

 قوات عثمانية تسيطر على صنعاء دون قتال أيلول/ سبتمبر 1905

ذكر الرحالة الإنجليزي"هاريس" أن الأتراك كان يتمتعون بمقدرة عجيبة على إخماد الثورات وكانوا يحرصون على عدم معرفة أي شخص أجنبي للطريقة التي يتبعونها في ذلك". عندما علمت الدولة العثمانية باضطراب الأحوال في ولاية اليمن نتيجة لحركة التمرد التي قادها الإمام يحيى، رأت أن تقمع تمرده بأسرع ما يمكن حتى لا تتفاقم الأمور وتزداد إلى إخراج الأتراك العثمانيين من اليمن فيؤثر ذلك بطبيعة الحال أسوأ التأثير على مركزها في الولايات العربية الأخرى، وقد رأى رجال الدولة أن خير من يقوم بهذا الدور هو أحمد فهمي باشا الذي سبق له أن تولى أمور الولاية مرتين فكان خبيراً بشئونها وعلى دراية عميقة بحقيقة الأوضاع فيها، إلى جانب ما عُرف عنه من شدة وحزم ومقدرة وخبرة بالشؤون العسكرية.

وقد أصدر الباب العالي أوامره لفيضي باشا الذي كان حينذاك مقيماً في شمال نجد بسرعة التوجه إلى اليمن لإقرار الأمور في الولاية الثائرة وتولي إدارتها بما يحفظ بقاءها في يد الدولة العثمانية، فقيام ثورة ناجحة في اليمن ضد الحكم العثماني كان لا يعني للأتراك فقد الجزء الجنوبي من ممتلكاتهم في شبه الجزيرة العربية فحسب، بل يعني ذلك احتمال فقدهم للحجاز وبالتالي سيفقدون المكانة المعنوية والروحية التي يتمتع به السلطان العثماني بين مسلمي العالم، عندما علم الإمام يحي بوصول قوات عثمانية هائلة مزودة بأسلحة حديثة ويقودها فيضي باشا الذي عُرف عنه قوة الشكيمة والخبرة الواسعة بشؤون الحرب، عندها أسُقط في يدي الإمام ورأى من الحكمة ألا يترك نفسه في مواجهة القوات العثمانية الجبارة التي قد تضع حداً لكل آماله وطموحه، خاصة وأن القبائل اليمنية التي يعتمد عليها الإمام لم تكن تملك من الأسلحة والتنظيم ما يؤكد له النصر على القوات العثمانية، ولهذا قرر الإمام يحي الانسحاب بقواته من صنعاء والإلتجاء إلى بلاد حاشد في الجبال الشمالية، مدعياً أن خوفه على أهالي صنعاء هو الذي حتّم عليه اتخاذ هذا الموقف، ولا شك أن الإمام بحي حاول تبرير انسحابه أمام اليمنيين متخذاً من ادعاء الخوف على أهالي صنعاء ذريعة لموقفه، وهكذا دخل فيضي باشا مدينة صنعاء على رأس قواته العثمانية دون أي مواجهة تذكر في أوائل سبتمبر 1905 م.

نجاح الإمام يحيى في إنهاك القوات العثمانية وبداية المرحلة الأولى من المفاوضات

على الرغم من سهولة سيطرة الدولة العثمانية على اليمن إلا أن تثبيت مركزها تطلب منها إرسال حملات عسكرية إلى مختلف المناطق ونشر الحاميات في أهم المدن والمراكز، حيث واجهت خلال ذلك مقاومة شديدة من أتباع الإمام يحيى، وكلفها ذلك الكثير من العتاد والقوات، إذ استمرت المواجهات بين الطرفين عبر عمليات تخريب قام بها أتباع الإمام يحي، قرر حينها فوراً فيضي باشا التوجه إلى الهضبة الشمالية على رأس قوة حربية مزودة بأحدث الأسلحة في محاولة لإخضاع القبائل المتمردة للحكم العثماني، غير أن القبائل كانت تنسحب باستمرار بغية النيل من القوات العثمانية لإبعادهم عن مراكز تمويلهم وإغراقهم بين جبال اليمن الشاهقة والوعرة ذات المسالك المجهولة، ما سبب إنهاك للقوات العثمانية في قطع المسافات الشاسعة وتسلق المنحدارت الجبلية الوعرة، وقد نجحت خطة القبائل المتمردة في إنهاك القوات العثمانية حيث نال منهم الإعياء كل منال، ونفدت منهم المؤن وانقطعت الإمدادات حتى انهارت معنويات الجنود مما اضطر فيضي باشا أن يقرر العودة إلى صنعاء، على الجانب الآخر واجه فيضي باشا تمرداً من بعض ضباط جيشه مما أحدث انقساماً بين صفوفه الداخلية أدى إلى إضعافه عن مواجهة القبائل اليمنية، مما جعل فيضي باشا يفكر جدياً في مفاوضة الإمام يحي ومحاولة الوصول إلى حل مرضي يحفظ للدولة العثمانية ماء وجهها من جهة ولا يؤثر على مركزها في الولايات العربية من جهة أخرى، والذي من شأنه أن يحد من الثورات اليمنية المتتالية ضدها ويهيء لولاية اليمن العثمانية الأمن والاستقرار.

لا شك أن قضية اليمن قد شغلت الدولة العثمانية في مطلع القرن العشرين عن كثير من القضايا الكبيرة التي كانت تهتم بها، كما أن العمليات الحربية التي قامت بها القوات العثمانية بصفة مستمرة في سهول وفوق جبال اليمن الشاهقة قد كلفت الدولة العثمانية الكثير من الرجال والمال، لقد اجتهدت الدولة العثمانية لإيجاد حل لهذه المشكلة المعضلة، خاصة بعد أن ثبت لديها أن أسلوب القوة أثبت فشله الذريع في إقرار الأمور في ولاية اليمن الثائرة على الدوام.

 

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس