عبد الناصر يوسف - خاص ترك برس

في عام 1977 كتب جورج أكرلوف ورقة بحثيه مفادها أن عدم التوازي في المعلومات بين البائع والشاري يؤدي إلى استقرار مستوى الأسعار عند مستوى متوسط غير منصف لأصحاب البضائع عالية الجودة مما ينتج عنه نزوح البضاعة الجيدة خارج التداول ومن ثم فشل السوق وانهياره في تحقيق توازن العرض والطلب عند سعر عادل.

هذا البحث - الذي رفضت نشره كل المجلات العلمية سنة 1977 - أسس لعلم الاقتصاد المعرفي، أو اقتصاد المعلومات، وفي سنة 2001 نال صاحب البحث جائزة نوبل في الاقتصاد مكافأة له على وضعه اللبنة الأولى في هذا العلم التي سماها في حينه (market for lemon) كناية عن سوق السيارات المستعملة كما يسميه الأمريكان.

زادت أهمية اقتصاد المعلومات مع زيادة الحاجة إلى تسعير عقود التأمين والعقود المالية بوجه عام تسعيراً دقيقًا بحيث يؤمن طريقة عادلة للتسعير تسمح باستمرار التداول دون فشل مما دعا إلى تكريس الجزء الأهم من موارد مؤسسات المال والطاقة وكل من يدور في فضائهما كشركات الطيران إلى الاستثمار بجمع المعلومات وتحليلها والتنافس كي يحظى كل طرف بمعلومات أدق من الطرف الآخر ليبني موقفه المالي وأسعاره بناءاً على جملة المعلومات التي لديه لضمان موقع تنافسي أفضل، حتى أن بعض الشركات فضلت تأجير منتجاتها التقنية على بيعها شريطة الحصول على داتا المعلومات المرتبطة بها لأهمية تعزيز قدرتها التنافسية كما فعلت شركة رولز رويس حيث عمدت لتأجير محركات الطائرات بدل بيعها للحصول على الداتا للاستفادة منها في تعزيز موقعها ضمن صناعة الطيران.

تحليل المعلومات والاسترشاد بها لا يتوقف عند تحديد السعر المناسب في الوقت المناسب وإنما يتعدى ذلك إلى التفاوض لاقتسام الأسواق ووضع آلية منافسة معينة إما تنتهي باتفاق أو بصراع يحكمه أيضًا اقتصاد المعلومات وأحد فروعه الذي يسمى Game theory، حيث يلجأ كل طرف إلى ردة فعل مدروسة اتجاه أي خطوة يقدم عليها الطرف المنافس كما هو جارٍ الآن في سوق النفط حيث الصراع على أشده، هذا السلوك الاقتصادي وضع حداً لتدخل المحامين في إبرام العقود والتفاهمات لأنه أوجد آليات عقاب وتعويض اقتصادية تغني عن اللجوء إلى التقاضي التقليدي، فكانت أول ثمرة من ثمار اقتصاد المعلومات هي إيجاد فضاء اقتصادي افتراضي لفض النزاعات بعيداً عن الفضاء القانوني الذي يتقيد بمنظومة أخلاقية ودستورية معينة.

ينسحب هذا الأسلوب في التعاطي الاقتصادي المبني على المعلومة وتحليلها على العلاقات الدولية أيضًا، سيما أن الدول المتقدمة معرفيًا وتقنيًا دخلت إلى كل أسواق العالم من بوابة العولمة الاقتصادية، واستفادت من ثورة التكنولوجيا التي أوجدت لكل فرد نافذة إلى الفضاء الافتراضي عبر جهازه الخليوي، أو عبر الألعاب الإلكترونية وغيرها من الحواسيب الشخصية، جراء ذلك، تدفقت المعلومات الشخصية والكلية إلى حيث ترتكز وحدات الخوادم (servers) في الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة، وتكونت لدى أصحاب هذه الخودام جبال معلومات تستطيع معرفة سلوك الأفراد والدول ورسم النظم الرياضية الخاصة بذلك لتحديد خارطة الاقتصاد السياسي الجزئية والكلية والمتمثلة في الأجوبة عن الأسئلة التقليدية "ماذا ننتج ؟" و"لمن ننتج؟" و"متى ننتج" و"كيف ننتج؟".

بعد انهيار أسواق المال جراء العصف الوبائي لكورونا انتهت الكثير من قصص النجاح التقليدي لدول ومنظمات وشركات لم تكن على الكفاءة المطلوبة للصمود أمام أي هزة بنيوية كهزة "كورونا"، والكارثة بالنسبة لهذه الدول والشركات ليست الاستعصاء في إعادة البناء والحصول على التمويل، بل الكارثة تكمن في الحصول على المعلومات الضرورية لإعادة البناء والتموضع من جديد، وهذه المعلومات بحجمها ودقتها المطلوبة قابعة في دوائر عالمية محدده متمثلة في شركات المعلوماتية العملاقة التي وحدها تمتلك "نفط  العصر" أي المعلومات، وهذا بدوره قد يؤدي إلى إلغاء الدور المناط ببعض الدول والشركات وإزاحتها عن خارطة الأهمية الاقتصادية والدولية لعدم كفاءتها وعدم جدوى إحياء دورها في عالم ما بعد الكارثة، وتوجيه الثروة والمعلومات باتجاه تحقيق كفاءة أعظم وخلق ثروة مادية أكثر صلابة.

لا بد إذاً من اصطفاف دولي جديد يبنى على اقتصاد المعلومات وتتكيف معه العلاقات الدولية وفق خرائط أنظمة الرياضيات المعلوماتية التي تسير وفق دالّة واحدة (تابع واحد Function) وهي دالّة السعر العادل التي تضمن عدم انهيار العلاقة وعدم انهيار السوق.

فلننتظر النماذج الجديدة من سيلكون ڤالي ولندن على أمل أن يعيش الجيل القادم في عالم أجمل.

عن الكاتب

عبد الناصر يوسف

استشاري اقتصادي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس