هند فخري سعيد - خاص ترك برس

كلما تنوعت قراءاتنا اتسعت أمامنا الخيارات التي نخرج بها، وتغيرت مقاصدنا من وراء ما قرأناه، لكن أكثر ما قد نفاجأ به أن نقرأ شيئًا مضى عليه سنوات لكنه لا زال ينبض بالحياة ويحاكي واقعنا وكأنه كتب الآن وكاتبه يعيش معنا.

قبل أيام تصفحت أعدادًا من مجلة العربي الكويتية وبواحدة منها (العدد 217/ ديسمبر 1976) شدني مقال في بداية العدد منشور بخانة (حديث الشهر) عنوانه (المثقفون والسلطة في البلاد العربية) للأستاذ أحمد بهاء الدين.

ماذا جاء فيه؟ يصف الأستاذ أحمد ويجيد الوصف لحال المثقف والمفكر ويقارن وضعه بين المجتمعات وما بين زمن وآخر في محاولة لتشخيص معاناة المثقف العربي وأسبابها وطرق معالجتها. فكان الإحساس الغالب علي وأنا أقرأ أننا نعيش ما يحكيه قبل عقود ولم يتغير شيء والحلول التي يطرحها تطرح اليوم دون استجابة من أي طرف.

يبدأ الكاتب في كلامه عن (هجرة العقول) بطرحها كمشكلة عالمية، وهي لا زالت حية بمعطياتها إلى يومنا هذا في عالمنا العربي وتزداد تأزماً لقسوة الظروف التي نعيشها، ويوضح أوجه الخسارة التي تخرج بها بلادنا العربية من مغادرة أبنائها الذين أكملوا مرحلة التعلم والدراسة وبدأوا مرحلة العطاء والإنجاز. هنا تكمن المشكلة بعبارة يختصرها الكاتب (كالحديقة التي كلما أينعت فيها زهرة، جاء من يقطفها...)، فالشاب العربي بعد ان يكمل تعليمه ويصل مرحلة من النضوج العلمي ويحصل على الشهادة التي جاهد وعائلته للحصول عليها يتفاجأ بفقدانه فرصة استثمارها وتوظيف الطاقات التي خرج بها في بلاده ليجدها في بلد آخر يجهل أي شيء فيه سوى أن فرصة العمر تنتظره هناك.

هكذا تكتب المعادلة الخاسرة لبلادنا العربية، فهي بأغلبها تقدم فرص التعليم المجاني لأبنائها، وتحكم الظروف الصعبة التي فيها نضوج العقول عند شبابها ليخرجوا بقوة وعزيمة ومستوى من التعليم تدفع بهم للبحث عن فرص عمل أكبر تحتضنهم، فتخسر الدولة ما قدمته من امكانيات التعليم والتكوين بخسارته جني ثمار العطاء من شبابها ليكونوا مكسب جاهز لدولة أخرى تستقطبهم بفرص عمل واستثمار لطاقاتهم الجاهزة.

والمشكلة الأكبر أن البلاد العربية لا تدرك قيمة هذا المهاجر وحاجتها الشديدة له، بل إنها قد تسد حاجتها بخبرة أو كفاءة تستقدمها من الخارج ويدفع لها أجر أكبر من الذي يدفع للشاب العربي وهذا لا زال يحصل ليومنا هذا.

إذا ما عدنا لسطور المقال تستوقفنا عبارة تنقلنا إلى الجزء الأهم في قضية المثقف العربي وهي: (ولكن هجرة العقول مهما بلغت الارقام تظل قضية جزئية إلى جانب القضية الكلية التي علينا أن نتأملها...)، ماذا يقصد؟ إنه يقصد المثقف والمتعلم العربي الذي يبقى في بلاده كيف يكون حاله وكيف يتعايش مع واقعه، فيأتي الكلام التالي (معظم المثقفين العرب يبقون في بلادهم وإن خرجوا منها يومًا ما يعودون إليها...) إذًا الثمار لا زالت على الأشجار أو إنها قد عادت إلى السلة... (لكن وجودهم في بلادهم لا يعني دائمًا الاستفادة منهم، وبالتالي فالصورة العامة لهم في معظم بلادنا العربية، إما السخط والكبت والشعور بالإحباط، وإما الانحراف – بالعدوى – مع الأمراض الاجتماعية الشائعة في بلادهم، فهم لا يستفيدون من ثقافتهم وقيمهم الحياتية ولا يفيدون، وإما يلجؤوا إلى نوع آخر من الهجرة... وهو الهجرة الداخلية، والانغلاق على أنفسهم فهم موجودون في بلادهم بأجسامهم وبعملهم الروتيني اليومي ومشاكل حياتهم اليومية الصغيرة، ولكنهم غير موجودين بعقولهم ولا بقدراتهم وطاقاتهم الحقيقية. متفرجون سلبيون يرون الأحداث تجري أمامهم، وربما رأوا بلادهم تتعثر أمامهم ولكنهم عاجزون عن المحاولة أو إبداء الرأي أو مشيحون بوجوههم عن الأمر كله يعيشون في مجردات ومطلقات لا صلة لها بصحيح الحياة مما حولهم...) ويستدركها بعبارة أخرى (ولا يجوز أن نفترض أن كل واحد منهم يجب أن يكون بطلًا، مستعدًا لمواجهة التشرد، أو دخول السجن...).

هنا عجزت عن كتابة وصف جديد لحال المثقف العربي في بلاده اليوم لأني لم أجد الجديد لأضيفه كتب المقال في عام 1976 ولا زالت حية تعبر عن واقع المثقف، ترى اين الخلل؟

يحيل كاتبنا المشكلة إلى جهات قد تكون هي السبب، فيبدأ بالبيروقراطية ويبرر ذلك بأنها (تقتل المواهب، وتعترض طريق الناجحين ولا تقبل دخول العناصر المثقفة الواعية لمجتمعها داخل صفوفها، أو لا تضعها في مكانها الصحيح).

إذا ما اتفقنا معه، سرعان ما نجده صعد بالمشكلة إلى الجهة المسؤولة عن البيروقراطية والمثقف والمجتمع بأكمله وهي السلطة السياسية ليصل النتيجة المتفق عليها دون جدال، أن السلطة السياسية في بلادنا العربية هي المتحكمة بكل شيء وأن ما تسير عليه البيروقراطية من سلوك تجاه المثقف هو بمشيئة السلطة السياسية ويتوافق مع توجهاتها وأن ما تمليه على الجميع هو الذي ينفذ، شريعة السلطة السياسية في بلادنا العربية في الماضي والحاضر لا زالت هكذا.

إذًا وضع المثقف في بلادنا العربية هو رهن سياسة السلطة ونهجها وتهميشه وضعف دوره بيدها، وقوته وفاعليته بقرارها، إذا ما أقيمت علاقة صحية بين المثقف والسلطة.

ما هي مقومات العلاقة الصحية بينهما؟

يشير الكاتب إلى أن كلًا من الطرفين بحاجة للآخر ومكمل له، وكلما تطورت مجالات الحياة زادت الحاجة للتقارب والتكامل. فالطرف الذي لديه الإمكانيات والقدرات وحرية التصرف والعمل واتخاذ القرارات (السلطة السياسية) هو بحاجة للطرف الذي ينير الطريق ويكشف شتى جوانبه ويتأمل بتفرغ للنظر إلى الأمور بمداها البعيد (المثقف).

يدخل هنا الكاتب في عرض لأنواع السلطة السياسية في العالم وكيف تدار الأمور في الدول الكبرى وأن ثقل السلطة صار يعتمد على أصحاب الخبرات في شتى المجالات وكلما زادت نسبة الخبراء والعلماء وتنوعت وجهات نظرهم واختلفت أفكارهم قوت السلطة. ويبدو أن هذا النهج قد استمرت عليه الدول الكبرى والمتقدمة وأن اختلفت بنظامها السياسي (ديمقراطي، دكتاتوري، برلماني تقليدي) إلى يومنا هذا.

يعرض الكاتب نوعين من طرق الاستفادة من المثقف في الدول المتقدمة، والجيد أن هاتين الطريقتين أخذ العمل بهما في بلادنا العربية، ووجد المثقف العربي مجاله فيها، الأول: تشكيل اللجان المؤقتة أو (لجان الأزمة) التي صار نسمع عنها كثيراً في بلادنا العربية – طبعًا – بسبب كثرة الأزمات والمشاكل العاصفة ببلادنا، والثاني: إقامة مراكز الدراسات والمعاهد المتخصصة في مختلف العلوم والمجالات الاقتصادية والسياسية والتعليمية والاجتماعية وأخذت تحتضن الكثير من أبناء النخبة المثقفة والأكاديمية وتستثمر طاقاتهم.

لكن السؤال المهم، هو هؤلاء بأعمالهم ونتاجاتهم هل هم فاعلون بصورة عملية في معالجة الأمور التي تدرج في جداول أعمالهم أم إنها مجرد تنفيس لطاقاتهم واحتواء لعقولهم وفكرهم وتحجيم وحذر من خطر طروحاتهم التي قد تصطدم بالسلطة السياسية؟ للأسف هم ليسوا فاعلين وإن تم تفعيل دورهم فإنه يكون موجهًا بحيث يطابق توجهات السلطات ولا يمكن مقارنته بفاعلية أقرانهم في الدول المتقدمة.

بعد مرور كل هذه السنوات والتغيير الكبير على المجتمعات، لا زالت العلاقة القائمة بين المثقف العربي والسلطة في بلاده غير سليمة، ما زال المثقف محجمًا مترددًا في إظهار ما يملكه من قدرات تخالف السلطة التي لا تقبل المخالف لرأيها، ولا تسمع الأصوات وإن تعالت.

عن الكاتب

هند فخري سعيد

أكاديمية عراقية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس