عبد الوهاب عاصي - مركز جسور للدراسات

تمهيد

تم تسجيل أول حالة إصابة بفايروس كورونا يوم 12 كانون الأول/ديسمبر 2019 في مدينة ووهان في الصين، وانتشر بسرعة فيها، قبل أن ينتقل إلى خارج الصين يوم 13 كانون الثاني/يناير 2020، ليتوسّع بعدها بشكل تدريجي في شهر شباط/فبراير، إلى أن أعلنته منظمة الصحة الدولية وباءً عالمياً يوم 11 آذار/مارس 2020(1).

إلا أن الاهتمام العالمي لم يتركّز على الفايروس إلا ابتداء من النصف الثاني من شهر يناير 2020، عندما بدأ ينتقل تدريجياً إلى دول أخرى، حتى وصل هذا الاهتمام إلى درجات غير مسبوقة في الأسبوع الأخير من شهر فبراير واستمر بشكل تصاعدي حتى تاريخ إعداد هذا التقرير. 

وأدّت طبيعة الجائحة إلى نقص كبير في التجهيزات والمعدات اللازمة للقطاع الصحي حول العالم، وشمل هذا النقص الدول الغنية كما الفقيرة، حيث جميع الدول "وخاصة تلك التي تمتلك أنظمة قائمة على التخطيط واستقراء المعطيات" تُخطّط لمخزونها الصحي وللبنية التحتية للقطاع الصحي بناء على المعطيات المتوسطة للظروف العادية أو تلك المتوقعة، لكنها لا يمكن أن تحتفظ بآلاف أجهزة التنفس الإضافية "على سبيل المثال" زيادة عن المعدل الذي تحتاجه بشكل طبيعي. 

ويُشبه هذا النقص في طبيعته ما تواجهه الدول التي تتعرض لكوارث طبيعية، حيث تقوم الدول الأخرى عادة بمد يد المساعدة، سواء من خلال التجهيزات أو الموارد البشرية. 

إلا أن ما اتصفت به جائحة كورونا بشكل خاص، وفي حالة غير مسبوقة في التاريخ الحديث، هو امتداد الأزمة إلى مختلف دول العالم في آن واحد تقريباً، فقد وصل عدد الدول التي طالها فايروس كورونا حتى نهاية نيسان/ أبريل 2020 إلى 185 دولة(2). ودفع هذا الأمر إلى انكفاء معظم الدول على ذاتها، بغية تركيز جهودها على تلبية الاحتياجات الداخلية قبل أن تتوجه إلى مساعدة الآخرين. 

وتشكل المساعدات الإنسانية واحدة من أدوات العلاقات الدولية المتعارف عليها، والتي اعتبرتها بعض الدول فرصة لتحقيق جملة من الأهداف الاستراتيجية للدول المانحة "وفق منظوري الواقعية السياسية والبنائية في العلاقات الدولية" وهي المصالح الدبلوماسية ذات الصفة الأمنية والعسكرية، المصالح الاقتصادية والتجارية والتي تنال أهمية إضافية في تحديد توجّهات المانحين، والمصالح الثقافية والأيديولوجية(3). 

ومما لا شك فيه، فإنّ الظروف الاستثنائية التي فرضها فايروس كورونا على العالم، أوجد بيئة مناسبة للعديد من الدول للتحرك إقليمياً أو دولياً لإعادة التموضع السياسي والاقتصادي، أو لفرض وقائع على الأرض، في ظل انشغال المجتمع الدولي بمواجهة الجائحة. 

يحاول هذا التقرير تقديم إحاطة موجزة عن دور دبلوماسية المساعدات الإنسانية في ظل انتشار فايروس كورونا حول العالم، ومسارعة العديد من القوى الدولية لتقديم المعونة مثل تركيا، الصين وغيرها، مع محاولة فهم الدوافع التي تقف وراء هذه المساعي وأثرها على السياسات الداخلية والخارجية للدول المانحة.

أولاً: أبرز المساعدات الدولية لمكافحة كورونا

تصاعدت وتيرة المساعدات الدولية بشكل متزايد منذ بداية شهر آذار/مارس 2020، وهو الشهر الذي بدأ يشهد أزمات في الموارد لدى الدول التي تفشى فيها المرض بشكل كبير. 

وقد برزت عدد من الدول التي تولّت مسؤولية المساعدات الإنسانية. وتالياً أبرزها: 

1) تركيا 

تم تصنيف تركيا قبيل ظهور فايروس كورونا باعتبارها الدولة الأكثر منحاً للمساعدات الإنسانية حول العالم مقارنة مع دخلها القومي(4). ومع تفشي جائحة فايروس كورونا، برزت تركيا كفاعل رئيسي قادر على تقديم المساعدات والمعدّات الطبية إلى قرابة 57 دولة، فيما تنشد أن يصل الدعم إلى قرابة 90 دولة كانت قد تلقّت منها طلبات لذلك(5).

وحرصت تركيا على إبراز هذه المساعدات، ووصولها إلى أكبر عدد من الدول، سعياً لإبراز دورها المحلي والدولي. 

وتأتي دول البلقان والاتّحاد الأوروبي والقوقاز، في طليعة البلدان التي قدّمت تركيا مساعدات طبية لها، إضافة إلى البلدان العربية وإسرائيل وغيرها. 

وشملت حزمة المساعدات الطبية التي قدّمتها تركيا إمدادات مستمرّة من الأقنعة، الملابس الوقاية، المعقّمات، معدّات الفحص، تجهيز مشافٍ، دعم الإنتاج المحلي للكمامات والأقنعة في العديد من البلدان، تدريب الكوادر المحليّة وغير ذلك. ولم تقتصر المساعدات الإنسانية في إطار مكافحة فايروس كورونا وتداعياته على الإمدادات الطبية بل شملت أيضاً تقديم الحصص الغذائية من دقيق وأرز وسكّر وزيت وغيرها من السلع الأساسية(6). وكذلك تم تقديم الدعم المالي أحياناً، مثل الدعم الذي تم تقديمه لجمهورية شمال قبرص.

ولم تُقدّم تركيا طلباً للحصول على مساعدات إنسانية خارجية طبية، غذائية ومالية، بما في ذلك مساعدات الطوارئ من صندوق النقد الدولي في إطار مكافحة فايروس كورونا.

2) الصين 

لم تكن الصين قبيل ظهور فايروس كورونا تحمل أي تصنيف على مستوى الإنفاق الإنساني حول العالم، لكن مع تفشي الجائحة ظهرت الصين كفاعل رئيسي قادر على تقديم المساعدات والمعدّات الطبية إلى قرابة 80 دولة ومنظمة دولية وإقليمية بما فيها الصحّة العالمية(7).

وقد طالت مساعدات الصين الإنسانية الطارئة 28 دولة في آسيا، و16 في أوروبا، و28 في إفريقيا، و9 في أمريكا و10 في جنوب المحيط الهادئ. 

وتعد هذه المساعدات هي الأوسع والأكثف منذ تأسيس الجمهورية الشعبية عام 1949، وتشكّل نقطة تحول في دور الصين على الصعيد الدولي. 

فيما شملت مساعدات بكين إرسال الأطباء، الأدوية، الأقنعة، الملابس الواقية، المعقّمات، معدّات الفحص، أجهزة اختبار، الإمدادات المالية وغيرها.

وكانت الصين قد تلقت دعماً على شكل مساعدات وإمدادات طبيّة من 21 دولة، وذلك حتى مطلع شباط/فبراير 2020.

3) روسيا 

لم تكن روسيا قبل فايروس كورونا تولي اهتماماً بالإنفاق الإنساني، لكن ذلك تغيّر نسبيّاً بعد تفشي الجائحة حول العالم، حيث سارعت إلى تقديم المساعدات الطبية إلى أكثر من 10 دول، أبرزها الولايات المتّحدة الأمريكية، إيطاليا، البوسنة والهرسك، الصين، صربيا، فنزويلا، إيران، العراق وسورية.

وشملت المساعدات إرسال أطباء، أقنعة، بعثات تعقيم، معدّات تطهير متنقّلة، معقّمات، ملابس واقية، أجهزة تنفّس، أجهزة اختبار وغيرها.

وحتى منتصف نسيان/ أبريل 2020، لم تُقدّم روسياً طلباً للحصول على مساعدات إنسانية خارجية طبية، غذائية ومالية في إطار مكافحة فايروس كورونا. 

4) الولايات المتّحدة

تعدّ الولايات المتحدة الدولة الأولى في العالم من حيث حجم المساعدات الخارجية التي تقوم بتقديمها(8). 

قدّمت الولايات المتّحدة حتى مطلع نيسان/ أبريل 2020 ما يقارب 270 مليون دولار لمساعدة 64 دولة في مكافحة فيروس كورونا(9). 

كما، قدّمت الولايات المتحدة 64 مليون دولار لدعم جهود المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة من أجل مساعدة أكثر سكان العالم تعرضاً للخطر أثناء تفشي الوباء. 

وأعلنت في 14 نيسان/ أبريل 2020، عن إيقاف الدعم المقدّم إلى منظمة الصحّة العالمية التي كانت تحصل على تمويل منها قدره بين 400 و500 مليون دولار(10). 

من الملاحظ، أنّ المساعدات الطبيّة التي قدّمتها الولايات المتّحدة اقتصرت على خدمات العلاج عن بعد، المساعدة في إنشاء المشافي الميدانية، إمدادات النقل، وغيرها ذلك، فيما لم تشمل نوعاً ما الأقنعة، أجهزة التنفّس ومواد التعقيم.

علماً، أنّ الولايات المتّحدة تلقّت مساعدات طبيّة من روسيا شملت أقنعة وتجهيزات طبيّة(11)، وقامت أيضاً بشراء أقنعة كانت فرنسا قد طلبتها من الصين.

5) أوروبا 

تعدّ قارة أوروبا الأكثر تضرّراً من جائحة كورونا، لكن ذلك لم يثنِ دولها أو الاتّحاد عن تقديم أنفسهم كفاعلين في الإنفاق الإنساني لمكافحة الوباء على مستوى العالم.

أ. الاتحاد الأوروبي 

فقد خصص الاتّحاد الأوروبي في 7 نيسان/ أبريل 2020، حزمة مساعدات مالية للدول الأعضاء بقيمة 15.6 مليار يورو، لمكافحة الوباء، عبر دعم أنظمة المياه والصرف الصحي، والحد من الآثار الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن كورونا. كما، يُفترض تقديم مبلغ 3.25 مليار يورو للدول الإفريقية، و3.8 مليار يورو لدول غربي البلقان(12).  وسبق أن خصّص في 31 آذار/ مارس حزمة مالية جديدة بقيمة 240 مليون يورو، لدعم اللاجئين السوريين والفئات الضعيفة في العراق والأردن ولبنان.

ب. مجموعة E3

تضمّ المجموعة كلاً من ألمانيا، فرنسا وبريطانيا تعهّدت في 2 آذار/ مارس 2020، بتقديم معدّات لحالات الطوارئ إلى إيران من أجل مكافحة فايروس كورونا، وكذلك منحها مساعدات مالية بقيمة خمسة ملايين يورو(13). 

ج. ألمانيا

ركّزت في تقديم الدعم إلى دول الاتّحاد الأوروبي لمكافحة الوباء، لا سيما سويسرا، النمسا، رومانيا، السويد، إيطاليا، فرنسا وبريطانيا، وقد شملت المساعدات الطبيّة تقديم أجهزة تنفّس، نقل المرضى إلى أراضيها، الأقنعة الواقية، والسلع الطبية الأخرى(14). كما قدّمت دعماً مالياً لمنظمة الصحّة العالمية بمبلغ قدره 5 ملايين يورو(15). 

د. فرنسا

اقتصرت في تقديم الدعم لمكافحة الوباء على إيران بشكل محدود عبر شحنة مساعدات طبية وعلاجية في 18 آذار/ مارس 2020، شملت أجهزة الإيكوغرافي، حقن، أجهزة مراقبة وبدلات واقية. كما قامت بإعادة تخصيص ما يقارب من 1.2 مليار يورو من مساعدات التنمية الإفريقية لمكافحة فايروس كورونا، حيث ستذهب الأموال إلى 19 دولة والتي عادة ما تكون محور جهود التنمية الفرنسية(16).

علماً، أنّ فرنسا تلقّت مساعدات طبية من الصين اقتصرت على أقنعة واقية، وكذلك بريطانيا تلقّت مساعدات طبيّة من عدّة دول مثل تركيا ومصر واقتصرت أيضاً على الأقنعة الواقية.

6) قطر

تعدّ قطر من الدول الرائدة في مجال تقديم المساعدات الإنسانية الخارجية. وقد بدأت قطر بإرسال المساعدات الطبية منذ 18 شباط/ فبراير 2020، إلى إيران وفلسطين والصين وايطاليا ولبنان وغيرها(17). 

وشملت المساعدات تقديم دفعات مالية لتنفيذ مشاريع طبيّة في إطار الاستجابة العاجلة، قفازات، أقنعة واقية، معقمات. 

7) السعودية

قامت المملكة بإرسال مساعدات إنسانية خلال الأزمة إلى عدد من الدول، مثل الصين(18)  واليمن وفلسطين(19).

وشملت المساعدات أجهزة تنفّس صناعي، أجهزة مراقبة سريرية، أجهزة قياس العلامات الحيويّة، أسرّة العناية المركّزة والعاديّة، مضخّات للمحاليل الوريدية، أجهزة الأشعّة السينية، نفّسات آلية للأطفال، طاولات للعمليات، أجهزة تخدير وأسرة للنقل.

8) الإمارات 

منذ مطلع آذار/ مارس 2020، انخرطت الإمارات في جهود الإنفاق الإنساني لمكافحة فايروس كورونا خارج الحدود، حيث وصلت المساعدات الطبية إلى 24 دولة حول العالم، منها إيران وأفغانستان وقبرص وصربيا وفلسطين وإسرائيل. وشملت المساعدات القفازات، الأقنعة، معدات الوقاية، إنشاء مشافي ميدانية، مطهّرات وغيرها(20).

ثانياً: دوافع دبلوماسية المساعدات في ظل الجائحة

لا تختلف دوافع دبلوماسية المساعدات الإنسانية لدى المانحين في فترات وقوع الكوارث والنزاعات عنها في ظل جائحة كورونا، لكنّها باتت تحمل أبعاداً متعدّدة وتأثيراً أكبر على المدى الطويل، ما يُفسّر الاهتمام العالمي على دور وموقع القوى الدولية في الإنفاق الإنساني خارج الحدود. 

ويمكن إجمال هذه الدوافع كما يلي: 

1) دوافع سياسيّة

أ. على مستوى الدعاية 

تعمل المساعدات الإنسانية على تحقيق عدد من الأهداف على مستوى الدعاية، ويمكن إبراز أهم جوانبها فيما يلي: 

- تساهم المساعدات الإنسانية التي يتم تقديمها إلى الدول في تغيير المزاج الرسمي والشعبي في الدولة المتلقية تجاه الدولة المانحة، كما تحدّ من قدرة التحرك لدى السياسيين المعارضين للدولة المانحة، على الأقل لفترة من الزمن. 

فعلى سبيل المثال، فإنّ المساعدات التي قدمتها تركيا إلى دول الاتحاد الأوروبي خلال الأزمة ساهمت في الحد من الخطاب السلبي الموجه ضدها في دول الاتحاد، وسمح لها بإنتاج صورة أوروبية مختلفة عن تركيا، والتي تعرّضت للكثير من الاستهداف الأوروبي في السنوات الماضية على خلفية سياساتها الخارجية والداخلية. وخاصة على خلفية مطالباتها السابقة للاتحاد الأوروبي بدفع مبالغ مالية على خلفية قضايا اللاجئين السوريين، وهذا ما تدركه تركيا جيداً.  

كما يندرج في هذا الإطار رغبة الصين في معالجة الصورة السلبية العالمية التي تربط بين الصين وفايروس كورونا، خاصة مع قيام عدد من الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة، بتحميل الصين مسؤولية انتشاره بعد أن تأخرت في الإفصاح عنه، ولم تقم بمشاركة المعلومات المتوفرة لديها بشفافية. 

ويفسر هذا الدافع قيام مصر بتقديم مساعدات إنسانية إلى إيطاليا خلال الأزمة، رغم ضعف مستوى القطاع الصحي داخل مصر، حيث رأت القاهرة في أزمة الفايروس فرصة لتحسين صورتها في إيطاليا، والتي تعرّضت للكثير من الضرر في السنوات الماضية على خلفية مقتل الطالب الإيطالي.

- تساهم المساعدات في بناء صورة ذهنية داخلية وخارجية قائمة على التفوق والريادة العالمية، وهو أمر يحاول الكثير من الزعماء، وخاصة في الدول الصاعدة، صناعته بشكل منظم. وتدرك هذه الدول أن تقديمها للمساعدات يعكس "على الأقل من الناحية النظرية" سيطرتها على الأزمة الداخلية، وامتلاكها القدرة فوق ذلك على مدّ يد العون للآخرين.

وقد سمحت جائحة كورونا بإحداث تغييرات آنية في خارطة الاحتياج الإنساني، الأمر الذي سمح لدول فقيرة تتلقى المساعدات تاريخياً بتقديم الدعم الإنساني لدول في مجموعة العشرين (على سبيل المثال الدعم المصري لإيطاليا والولايات المتحدة). 

وتترك هذه الصورة آثارها في المحافل الدولية، وفي قدرة الدول المانحة على دعم تحركاتها الدبلوماسية. 

كما تترك آثاراً أكثر أهمية على المستويات الداخلية، حيث تُعزّز هذه التحركات من الشعور بالاعتزاز الوطني، وبانتماء المواطنين إلى دولة قوية قادرة على مدّ يد العون للآخرين. ويتعزّز هذا الأمر في حالة الدول التي تُقدّم بالفعل مستويات متميزة من الأداء الصحي خلال الأزمة. كما تساعد هذه المساعدات في منح السلطات مادة للدعاية المحلية الحكومية عن الدور والمكانة العالمية للدولة.  

وتُظهر هذه المساعدات إمكانيات الدولة الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية، ومتانة بنيتها الحيوية، والتي تسمح لها بتقديم يد العون للآخرين في الوقت الذي تواجه فيه بنجاح أزمة مماثلة لما يواجهونها. ويمكن أن تنعكس هذه الصورة -إن كانت تمثّل الواقع فعلاً- في تعزيز التموضع الدولي للدولة لاحقاً.

ب. على مستوى التعاون والعلاقات الثنائية

يحمل الإنفاق الإنساني خارج الحدود في ظل جائحة كورونا فرصة لدعم التوجهات السياسية للدول، ويمكن أن يشمل هذا الأمر على سبيل المثال لا الحصر: 

- دعم جهود الدول الصديقة، أو تلك التي تملك فيها الدولة المانحة نفوذاً حالياً، أو رغبة في نفوذ مستقبلي. ويندرج في هذا الإطار، على سبيل المثال، دعم تركيا لمحيطها الجيوسياسي في القوقاز والبلقان ودول إفريقيا، وكذلك دعم فرنسا لدول إفريقيا التي تُشكّل أصلاً امتداداً لمستعمراتها السابقة. 

- زعزعة الثقة في مواقف الدول المستفيدة إزاء تماسك علاقاتها الإقليمية والدولية. وهذا ما يُمكن التماسه من خلال طبيعة ودور روسيا والصين في تقديم المساعدات لإيطاليا ودول البلقان، والذي يبعث على التشكيك في قدرات ومصداقية الاتحاد الأوروبي وإظهاره بموقف العاجز على الوقوف لجانب أعضائه، ويدعم مواقف التيارات اليسارية الأوروبية المؤيدة لروسيا، وتلك اليمينية الرافضة للاتحاد الأوروبي. 

- اختبار الثقة في العلاقات بين الدول المانحة والمستفيدة، وهذا ما تُظهره المساعدات المقدّمة من قبل تركيا والإمارات إلى إسرائيل، لكن ذلك لا يعني بالضرورة رفع مستوى التعاون بين الأطراف، بل قدرة على خلق الفرص.

2) دوافع اقتصادية 

تحمل دبلوماسية المساعدات الإنسانية في ظل جائحة كورونا بُعداً اقتصادياً لدى الدول المانحة، ويشمل ذلك على سبيل المثال:

- الحفاظ على استثمارات الشركات في الدول المستفيدة، حيث تحرص الدول المانحة على عدم انهيار الأنظمة السياسية في الدول التي تتواجد فيها شركات الدول المانحة.

- رفع مستوى الطلب على منتجات الدول المانحة أو الحيلولة دون انخفاضه؛ باعتبار أنّ جودة المساعدات الطبية وإظهار التفوّق في عملية الإنتاج والكفاءة في الاستجابة العالمية لمكافحة الوباء قد يساهم مستقبلاً في دعم الصادرات على مستوى القطاع الطبي أو حتى غيره. وربّما ينطبق ذلك على تركيا والصين.

ثالثاً: الآثار السلبية المحتملة للمساعدات

1) آثار داخلية

تحمل المساعدات الإنسانية جملة من الآثار داخل الدولة المانحة، والتي يمكن إجمالها فيما يلي: 

أ. الاستخدام السلبي من طرف المعارضات

تستهدف الأحزاب المعارضة في كل الدول المانحة تقريباً (والتي يتواجد فيها نظام ديمقراطي) ميزانية المساعدات الخارجية، سواء من حيث حاجة مجتمع الدولة المانحة للدعم، والقرارات السياسية المتبعة لتحديد أوجه الدعم، والرشد والمحاسبة في كيفية إنفاق هذه الأموال، إلى غير ذلك من مبررات. 

وترتفع خطورة هذا العامل في المشهد السياسي في حالة مشابهة لانتشار فايروس كورونا، إذ أن كل الدول المانحة تعاني من الفايروس حالياً (ما عدا الصين وفقاً للدعاية الرسمية)، وبالتالي فإنّ وجود أي نقص في المستلزمات المحلية سيوجّه النقد بشكل مباشر لبرامج المساعدات الخارجية، ويسمح للمعارضة باتهام الحكومة بعدم الرشد. 

وفي حالة الدول التي تتواجد فيها حياة سياسية ديمقراطية، فإنّ الأمر ينعكس في حالة نقمة لدى المواطن، والتي يمكن أن تؤثر على قدرة الحكومة على بثّ برامج الدعاية الداخلية.

ب. العبء المحتمل على الميزانية

يُعاني الاقتصاد العالمي من حالة ركود، وتشهد معظم اقتصادات الدول إشكالات كبيرة بسبب الإجراءات المتبعة داخلها لمواجهة الفايروس والإجراءات المتبعة في الدول الأخرى. ونتيجة لهذا الأمر، فإنّ كل دول العالم سوف تعاني من انخفاض في مداخليها، إضافة إلى اضطرار معظم الحكومات إلى ضخّ أموال كبيرة في الاقتصاد لدعم المتضررين من هذه الإجراءات. 

وتُسبِّب المساعدات الاقتصادية بحجم كبير في هذه الظروف زيادة في العبء المالي على الحكومة، وقد تحدّ من قدرتها على تخصيص نسبة كبيرة من الدعم لفترات طويلة. 

2) آثار خارجية

قد تحمل المساعدات الإنسانية آثاراً سلبية على الدول المتلقية للمساعدات الإنسانية في ظل جائحة كورونا.

ويتمثّل التحدي الرئيسي في أن تؤدّي المساعدات التي تُقدّم إلى بعض الدول في دفعها على المدى الطويل للخروج من التكتلات التي تنتمي إليها أو تسعى للانضمام إليها، مثل المساعدات الروسية لصربيا، والتي تهدف إلى تمتين العلاقات بين البلدين، على حساب التوجهات الصربية للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، كما أن المساعدات الروسية والصينية والتركية لإيطاليا، مقابل تأخر مساعدات الاتحاد الأوروبي، سوف تساهم في تقوية التيار اليميني الرافض للاتحاد، كما ستساهم في دعم التيارات اليسارية المؤيدة تاريخياً لروسيا والصين.

خلاصة

ساهمت أزمة كورونا في خلق واقع استثنائي وغير مسبوق، من حيث تضرر معظم دول العالم في آن واحد، بشكل تسبب بعجز القطاعات الصحية في أغنى دول العالم، وحدّ من قدرة الحكومات على التحرك الداخلي والخارجي. 

لكن هذه الأزمة منحت بعض الدول قدرة على التحرك الدبلوماسي الفعال من خلال أداة المساعدات الإنسانية، مستغلّة التغيّر الآني في خارطة المحتاجين للمساعدة، وتمكّنت بعض هذه الدول من وضع بصمتها على خريطة المساعدات الدولية لمواجهة كورونا، بما سيترك آثاره اللاحقة على التموضعات السياسية والاقتصادية. 

ورغم أن شكل وحجم التغيرات التي ستتركها كورونا على النظام السياسي والاقتصادي الدولي، وعلى هياكل الدول نفسها، ما زال غير واضح حتى الآن، وربما يحتاج إلى فترة طويلة بعد انتهاء الجائحة حتى تظهر ملامحه، إلا أن الأدوار الدبلوماسية التي تقوم بها بعض الدول سوف تمنحها بلا شكّ دفعاً إيجابياً نحو تموضعٍ أكثر فاعلية في مرحلة ما بعد الوباء.


مراجع

1- Coronavirus confirmed as pandemic by World Health Organization, BBC, 11/3/2020 
2-  COVID-19 CORONAVIRUS PANDEMIC, WorldoMeters 
3-  موسى علاية، "المساعدات الخارجية بين الأهداف الاستراتيجية والفواعل والمؤثرات الداخلية في الدول المانحة". مجلة سياسات عربية، العدد 14، 1-5-2015، ص77-81. 
4-  Development Initiatives, Global Humanitarian Assistance Report 2019, P36 
5- "لمواجهة كورونا.. 88 دولة تنشد دعماً طبياً تركيا". وكالة الاناضول، 2-4-2020،  
6- "تيكا التركية تحارب كوفيد-19 على المستوى العالمي". الوكالة التركية للتنسيق والتعاون على موقع Twitter، 16-4-2020 
7- "الصين تساعد أكثر من 80 دولة في مكافحة كوفيد-19". CGTN Arabic، 27-3-2020 
8- Foreign aid: These countries are the most generous, World Economic Forum, 
9- The United States Continues Leadership in the Global COVID-19 Response with More Than $270 Million in Additional U.S. Foreign Assistance, Relief Web, 22/4/2020 
10- Coronavirus: US to halt funding to WHO, says Trump, BBC, 15/4/2020 
11- Turning the Tables, Russia Sends Virus Aid to U.S., New York Times, 2/4/2020 
12- "الاتحاد الأوروبي: 15 مليار يورو لمكافحة كورونا واستراتيجية منسقة للخروج من العزل". يورونيوز، 7-4-2020 
13- "ألمانيا وفرنسا وبريطانيا تقدم 5 ملايين يورو لإيران لمكافحة كورونا". رويترز 2-3-2020،
14- " كيف تساعد ألمانيا أوروبا في مواجهة أزمة كورونا". وزارة الخارجية الألمانية، 27-3-2020 
15- " مساعدة الأضعف: المساعدات الإنسانية في أثناء جائحة كوفيد 19". وزارة الخارجية الألمانية، 3-4-2020
16- “La France Lance, Via L’afd, L’initiative Covid-19 - Santé En commun pour soutenir les pays d’Afrique”. Agence Française de Développement, 9-4-2020. 
17- مساعدات إنسانية ومشاريع تنموية قطرية للعالم بـ 2019، وكالة الأناضول، 22/4/2020
18-  دفعة مساعدات طبية سعودية تصل إلى مدينة ووهان الصينية، الشرق الأوسط، 10/3/2020 
19-  مساعدات سعودية لليمن بقيمة 3.5 مليون دولار لمواجهة كورونا، العربية، 20/3/2020
20- الإمارات تدعم 24 دولة بأطنان من المعدات لمكافحة فيروس كورونا، سكاي نيوز عربية، 21/4/2020

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!