د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس

السلطان سليمان القانوني أحد عظماء العثمانيين المظلومين. كُتب عنه الكثير، لكنّ شخصيته مازالت تحتاج إلى مجلدات لإجلاء حقيقتها. فالقانوني شخصيّة مؤثرة من أي جانب تناولته. وفتوحاته جعلته عظيما ومهابًا. لكن الأعمال التلفزيونيّة التي انتشرت كالنّار في الهشيم في أغلب القنوات في البلدان العربية رسمت له صورة مختلفة تمامًا عن الحقيقة، وسعت إلى تشويهه تشويها متعمّدًا، وقد يحتاج الأمر إلى ردود كثيرة على هذه الأعمال التي جانبت الحقائق التاريخية، وألحقت ضررًا بالغًا برجل عظيم شهد بعظمته القاصي والداني. وفي هذا المقال سوف نتناول جانبًا من شخصيّة القانوني ربما لا يعرفها إلا القليل من المتخصصين في التّاريخ، إنها شخصيّته كشاعر مرهف الحسّ، غزير الإنتاج في النّظم وأديب محبّ للفكر والأدب.

تصور المصادر التّاريخية السلطان سليمان القانوني أنّه قصير القامة، وأشقر البشرة وخرنوبي اللحية وأزرق العينين وعريض المنكبين، وقوي البنية وشاربه طويل وكث يرتفع فوق أنفه، ولكن لونه شاحب قليلاً. نال نصيبا جيدًا من التعليم لكونه قضى وقتا طويلا من طفولته في قصر جده بيازيد الثاني. وهناك تلقى دروسا من علماء قديرين كثيرين، ونشأ بشكل خاص في رعاية خير الدين أفندي القسطاموني.

كان محبّا للأناقة والفخامة والزركشة باللّباس على النقيض من والده وجده، وكان يحب ارتداء الثوب الطويل، ويستعمل أدوات وزينة تظهر الغنى والثراء. وكان يرتدي سراويل مختلفة الأشكال. وكان هاويا للصّياغة مثل والده ومعلّما ماهرًا في هذه المهنة إلى حد أنه كان يعرف نماذج فن الصياغة الإيطالية ويطبقها. ويذكر إبراهيم حقي قونيالي في مقال له بعنوان "السلطان سليمان القانوني" نشر عام 1966م أنه بأمر من السلطان القانوني كان "الصّاغة يقيمون مخيّما في منطقة كاغط خانة (في اسطنبول) كلّ عشرين يوما ويلهون". وبالإضافة إلى كل هذا كان القانوني شغوفا بالأحجار الكريمة مثل محمد الفاتح.     

يحتفظ سليمان القانوني بلقب أكثر من كتب شعرًا على بحر الغزل بين الشعراء الكلاسيكيين، وبفارق كبير. ومن المتّفق عليه بين الدارسين أن عظمة شاعريته كانت مساوية لعظمة قيادته العسكرية والإدارية. واستخدم القانوني اسم "مُحبي" الفني، ولضرورة الوزن استخدم أحيانا أسماء؛ محب، والسلطان سليمان، ومفتوني، وعاجزي.

يتضمن ديوانه 2779 قصيدة على بحر الغزل، بينما لم يكتب الشاعر "زاتي" أشهر الشعراء الكلاسيكيين سوى 1825 قصيدة فقط.  وهكذا يعتبر القانوني صاحب الرقم القياسي بكتابة قصائد على هذا البحر. كما أن أكثر شعراء العالم التركي علي شيرنوائي بقي عند الرقم 2616 قصيدة على بحر الغزل. وبذلك يتخلف عن رقم القانوني بمائة وست وستين قصيدة.

كتب بالفارسية قصائد كثيرة لو جمعت لعادلت ديوانا بأكمله، وقد طبعت السّلطانة عادلة بنت محمود الثاني قسما مؤلفا من 875 قصيدة من ديوان محبّي سنة 1899م تقديرا لجدّها. ويذكر المؤرخ الأديب التركي أميل جلبي أوغلو أن القانوني ينبغي أن يُعد أحد كبار الشّعراء الذين كتبوا في الشّعر العثماني.

رفع القانوني من مكانة الأدباء والعلماء والشعراء واستضافهم في قصره، واستمتع بمسامراتهم واصطحبهم معه في ترحاله، وعمل على إسعادهم. ويقول لطيفي في مذكراته "الكلمات البليغة التي تنتظم في خلجات قلبه أثناء أعمال السلطنة تشبه عقدا من اللؤلؤ، ووجدت مكانة وشهرة بين المثقفين وفي لغات العالم كلها. بأداء مرهف وكلمات ملونة نظم قصائد على بحر الغزل الجميل بالفارسية والتّركية".

ويذكر إسماعيل حقي أوزون تشارشلي في إحدى مقالاته بمجلة "التاريخ التركي" أن القانوني كان فنانا في الخط، ويكتب خط التعليق بشكل جميل. ويلاحظ أنّه كان يستخدم هذا الخط في خطاباته.

رعى القانوني أرباب العلم والفن بشكل دائم وأمر علاء الدين جلبي بترجمة كتاب "كليلة ودمنة" أحد أهم آثار الأدب الهندي، وجاء في مقال لـ"كوك بلغين" في الموسوعة الإسلامية التركية أن القانوني قرأ الترجمة المقدمة له باسم "سيرة سلطانية" في ليلة واحدة، وكافأ المترجم بتعيينه قاضيا على بورصة وهو منصب يحتاج في الأحوال العادية إلى سبع سنوات خدمة لبلوغه.

كما أمر شاعرًا يدعى ضعيفي بترجمة كتاب "إلباسه لباسا روميا" من الفارسية إلى التركية، هو كتاب سياسي نموذجي، ويمكن اعتبار عمله هذا محاولة على طريق تشكيل فلسفة الدولة من خلال الرسائل وأخبار الشعراء. وبالإضافة إلى ما تقدم فقد ترجم مراد بك أحد مترجمي القصر السلطاني كتاب الفيلسوف والخطيب الرومي شيشرون وقدمه للقانوني. واسم الكتب باللاتينية هو "De Senectute " وترجمه بعنوان "كتاب مديح الشيخوخة".

هذا هو سليمان القانوني السّلطان وقائد الجيش والإداري والشّاعر والأديب والفنّان، جمع كثيرا من الصّفات والشمائل التي لا تكاد تجتمع عند إنسان. لكن من المؤسف أننا لا نرى هذا مجسما في ما يعرض من مسلسلات تلفزيونية، بل نجد العكس تماما؛ يقدم في صورة الإنسان المولع بالشّهوات والنّساء والبذخ وحبّ الدنيا، والمجرد من كل فضيلة ومن كل منقبة. ومن المؤسف كذلك أنّ أموالا طائلة تُهدر في أعمال تافهة يقال إنّها فنية ولا علاقة لها بالفنّ البتة، كان من الأجدر والأولى إنفاقها في صناعة وصياغة أعمال فنّية راقية تَعرض للجُمهور العريض حقيقة هؤلاء الرّجال العظام الذين تركوا بصمات لا تُمحى من صفحات التّاريخ.

عن الكاتب

د. مصطفى الستيتي

باحث متخصص في التاريخ العثماني.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس