ساجد تركماني - خاص ترك برس

- ليست كثيرة تلك المحطات التي يتوقف عندها التاريخ ليدونها بأحرف من دم ونور تضيئ في ثنايا صفحاته ويُخلّد ذكراها مُرغماً، ليس لأهميتها فحسب بل لأن المسار الآخر عند تلك المحطة و ذلك المفترق كان يمكن أن يكون كارثياً لدرجة تفوق الوصف وأن يغير وجه التاريخ ومساره للأبد من تلك المفاصل الفارقة في حركة التاريخ كان يوم 15 تموز 2016.

قد يعتقد البعض أنها مبالغة وربما يظن آخرون أنها محض تزلف لا أكثر.

ذلك اليوم من الصعب جداً أن يُمحى ليس من ذاكرة تركيا ولا شعبها الجَسور فحسب بل من ذاكرة العالم أجمع حيث أن مئات ملايين العيون المقهورة باتت ساهرة تلك الليلة ترنوا نحو اسطنبول وملايين الأفئدة تهوي لما يحصل فيها، ولدبابات الانقلابيين وهي تجول شوارعها وتقطع جسورها وتغلق ميادينها وتدوس إرادة شعبها وتسحق أحلامهم وآمالهم.

تركيا وتجربتها الغنية والمتميزة ونهوضها السريع وكفاحها الباسل لانتزاع الحرية من براثن الاستبداد بعد حقبة طويلة وحالكة والانقلابات العسكرية المتوالية التي حرمت شعبها الاستقرار والازدهار لعقود، مثلت نموذجاً لشعوب المنطقة بأسرها.

فتركيا ليست تلك البلاد النائية أو الهامشية فهي مازالت حتى اليوم في ذاكرة و وجدان معظم المسلمين حول العالم كرمز للخلافة و نموذج فريد للدولة الإسلامية العظمى المهابة الجانب والتي استظل تحت مظلتها معظم شعوب المنطقة مايزيد عن خمسة قرون، فهي تمثل القوة والمنعة والوحدة والكرامة التي تتوق لها الشعوب وتحن لها نفوسهم وتشتاق منذ أن انفرط عقد الخلافة العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى وانشطار رعاياها إلى دول وشعوب مستضعفة وبائسة ذاقت صنوف الإذلال على يد المستعمر ثم ذيوله و رواسبه لاحقاً.

ما مثل الأهمية القصوى للانقلاب الفاشل بتاريخ 15 تموز ليس لكونه فشل فحسب ولا لأنها كانت المرة الاولى التي تتعثر فيها مجنزرات الانقلابيين وداعميهم في التاريخ الحديث لتركيا وعموم المنطقة ولا لأن تركيا اليوم تمثل فضاء الحرية الرحب والذي يضم شتى صنوف البشر ممن ضاقت بهم دولهم التي كُبِلت فيها حريتهم وسُفِحت كرامتهم، إنما منبع الرمزية والأهمية لتلك الليلة كان بسبب من أفشل الانقلاب، فلم يكن من أفشله قوة عسكرية أخرى ولا تدخل خارجي، بل هو الشعب ..نعم الشعب الأعزل ..الشعب الحر… الشعب المتمسك بالحرية والكرامة والمستقبل والمستعد لبذل كل مايملك وأعز مايملك في سبيل الحفاظ عليهم.

تلك الليلة مثلت صحوة الضمير ويقظة الوجدان ووعي الشعوب التواقة للتحرر القادرة على حسم قرارها وفرض اختيارها داخلياً وخارجياً رغم كل المكر والمؤامرات والمكائد

لو نجح الانقلاب في تلك الليلة المشهودة لم يكن ليغير تاريخ تركيا فحسب (بل تاريخ الثورة السورية معها أيضاً) بل وتاريخ المنطقة برمتها.

ليلة لم تكن كأي ليلة… عايشنا فيها رعباً ويأساً غير مسبوقين ...سقطت منا قلوبنا وشخصت أبصارنا واختنقت صدورنا وتسمرنا في أماكننا نتلقف الأخبار ..دعونا الله ...بكينا ...ثم ضحكنا حين أشرقت شمس اليوم التالي، لم تكن كأي شمس ألفناها من قبل، بل شمساً أشرقت معها نفوسنا وثقتنا بالله ثم في أنفسنا وأملاً حمله لنا شعاعها، وانفلق معها فجر جديد وتاريخ جديد ومستقبل جديد عنوانه: إرادة الشعوب بعد اليوم لن تُكسَر وأحلامهم لن تُسرق

أما بالنسبة لنا نحن السوريين فقد كان لتلك الليلة طعم آخر، طعم الأمل والتفاؤل أن ثورة الشعب السوري لابد ستنتصر مهما اسود ليلها واشتدت محنتها وأن الظالمين والمستبدين إلى زوال ولو بعد حين، فشمس الحرية والكرامة والنصر التي أشرقت تلك الصبيحة (عقب الانقلاب الفاشل) على جسر البوسفور ودبابات الانقلابيين وهي صرعى تحت أقدام الشعب التركي البطل، أضاءت أيضاً على تلال سوريا وسهولها وبعثت الأمل في قلوب أحرارها وهمست لهم قائلة: قريباً سأشرق في سمائكم فلا تَهِنوا ولاتحزنوا ولاتيأسوا.

عن الكاتب

ساجد تركماني

باحث وخبير بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس