علي الصاوي - خاص ترك برس

قد تستغرب عزيزي القارئ من عنوان المقال وكيف يكون أردوغان ثاني الفاتحين لمجرد أنه أعاد آيا صوفيا من متحف إلى مسجد، هل هذا كافٍ لوصفه بهذا اللقب الكبير؟ وهل يستوي من بذل روحه ودمه في سبيل فتح القسطنطينية بمن أعاد متحفًا إلى مسجد بجرة قلم؟

لكن تمهل عزيزي القارئ وليكن الواقع هو ميزان حكمك ومنطلق إنصافك، فالرجل منذ صعوده إلى السلطة واجه طوام كبرى ومحاولات اغتيال لا حصر لها، كان يسبح وسط أمواج عاتية من المؤامرات والخيانة، تآمر عربي ودولي وحروب اقتصادية وتشويه إعلامي، وأكثر من محاولة انقلاب منها ما تجلى في تحذيرات من قبل قادة الجيش وصولا بانقلاب 2016 الذي أزهق أرواح كثير من الأبرياء وكان ضمن خطته اغتيال أردوغان نفسه، فإذا كان السلطان محمد الفاتح واجه حصونا وقلاعا وتضاريس وعرة أثناء فتحه للقسطنطينية يسهل تجاوزها بشيء من الإصرار والصبر والعدة الجيدة، فإن أردوغان واجه ما لا ينجو منه إلا من تولاه الله بعنايته وحده، فرائحة الخيانة كانت تفوح في كل خطوة يخطوها للنهوض بتركيا، فلم تثنه في التراجع عن ميلاد تركيا الجديدة.

لم يكن حكم أردوغان مفروشا بالورود والرياحين بل كان يخوض معركة وجود لا وجوده الشخصي، بل وجود أمة تاقت نفوس أبنائها لرؤية أمجاد أجدادها واقعا يعيشونه بفخر واعتزاز، أمة تكالب عليها ذئاب الأرض وطُعنت من القريب قبل البعيد، لم يرحمها أحد، ولم يأخذ عزاءها سوى اللئام، أردوغان لم يفعل إلا ما كان ينبغي عليه فعله، لم يتجن على مقدسات أحد كما تفعل إسرائيل في القدس بمباركة ومشاركة عربية، لم يهدم كنائس المسيحيين كما فعلت الهند في مسجد بابري التاريخي ومنع المسلمين من حقوق المواطنة ولم يتكلم أحد، لم يمنع أردوغان المسيحيين من إقامة شعائرهم كما تفعل اليونان التي حرمت المسلمين هناك من بناء مسجد للصلاة، وحولت مسجدا كان ينبغي أن يصلي فيه المسلمون إلى مراقص وحانات، لم يُعِد أردوغان آيا صوفيا إلى مسجد بقرار سلطوي كما فعلت إسبانيا في مساجد المسلمين، بل أعلى محكمة قضائية في البلاد هي من اتخذت القرار مستندة إلى وثائق تاريخية بلغت 27 ألف وثيقة، لم يمنع أردوغان الشيعة من إقامة شعائرهم في تركيا بأذان شيعي بالرغم من مخالفته لمذهب السنّة، كما تفعل طهران في منع السنّة من إقامة صلواتهم وتحرمهم من بناء أي مساجد في العاصمة، في حين أن معابد اليهود وكنائس المسيحيين منتشرة في كل مكان. 

على مدار 17 عاما حاول حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان أن يُخرج تركيا من عنق الزجاجة ويحررها من حظيرة التبعية الغربية ويفك أسرها من أغلال العلمانية التي كل هدفها محاربة الدين فقط، بعيدا عن أي مشروع قومي يرفع من شأن تركيا ويحسن من حياة المواطنين، ما دفع السفير الإسرائيلي السابق في تركيا إلى قول: "إذا كان أتاتورك مصلحا عظيما في الاتجاهات التي أحببناها، فإن أردوغان مصلح عظيم في الاتجاه المعاكس، وأرى في نظري أن صعوده إلى السلطة ثورة غيرت وجه تركيا".

لكن الغريب في المسألة أن ينبري بعض رجال دين وبعض المهزومين نفسيا من العرب إلى شجب قرار إعادة آيا صوفيا مسجدا، لكنه أمر متوقع من رجال دين تحولوا إلى موظفين لدى السلطة السياسية يأتمرون بأمرها ويقولون ما تمليه عليهم، وشعوب خانعة ذليلة عوّدها الذل أن لا تستسيغ أى موقف شجاع لحاكم مسلم يتعلق بمقدسات دينية تحمل رمزية كبيرة في وجدان الأمة الإسلامية، وهم المسحوقون تحت وطأة الاستعباد والاستبداد حتى ترسّخ في نفوسهم أن البلادة والخنوع هما القاعدة وغيرهما استثناء.

فهل يعلم هؤلاء أن القسطنطينية فضَّلت أن تذهب إلى الأتراك على أن تخضع لسلطان الكاثوليكية في روما، بعد محاولات توحيد الكنيستين تحت سلطان البابا في روما قبل سقوطها، وأخفق الاتفاق بعد رفض الشعب له ولَعَن رجال الدين كل من يؤيد هذا الاتحاد، ورفض بطاركة الإسكندرية، وأنطاكية، وبيت المقدس، وحينذاك قال الرجل الثاني في الإمبراطورية البيزنطية لوكاس نوتار: "إنني أفضل أن أرى عمائم الأتراك في القسطنطينية على أن أرى قلنسوات رجال الدين اللاتين".

عادت آيا صوفيا وعاد معها الأمل من جديد، فأثبت القرار أن نداء جذور الأمم أقوى بكثير من أي محاولات لتغريبها أو تبديل هويتها، فحين تكون الأمم ذات سيادة في قرارها ومستقلة في سياستها، تستطيع أن تسوس نفسها وتسترجع عزها، بعيدا عن تلك التي تتنكر لتاريخها وتركع أمام عدوها تستجدي منه العفو والإحسان، وتذوب في هويات أمم أخرى فتعيش ممسوخة ومحتَقرة.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس