ياسر عبد العزيز - خاص ترك برس

بعيدا عن الرواية التي ساقها حزب الله وتبنتها الدولة المسيطر عليها من قبل الحزب الأقوى في لبنان، وبعيدا عن أهداف التفجير وسواء كان إحراقا، أو حريقا، في رواية النظام، ومن ورائه الاحتلال الإسرائيلي أو أمريكا المنخرطة في صراع مخابراتي مع إيران ومن ثم تريد قصقصة أجنحته المنتشرة في المنطقة، أم أنها قوى معارضة تريد أن تحرك المشهد، أم أنه حزب الله نفسه الذي يريد أن يقلب الطاولة على الشارع المنتفض على سياساته وتياره المحكوم من قبو أمينه العام، فإن تداعيات حريق مرفأ بيروت تبدو ممتدة على الوضع الإقليمي ومؤثرة فيه.

بداية علينا أن نتفق أنه ليس بالضرورة أن تكون فاعل في الحدث لتستفيد منه، أو مُنشئًا للواقعة لتوظفها، وإنما تاريخ العشر سنوات الماضية على الأقل أفرز سياسة جديدة قديمة، مبنية على الاستفادة من الحدث، فقد يكون الفاعل غير المستفيد، وهو ما يدحض نظرية "إذا أردت معرفة الجاني فأبحث عن المستفيد" إذ أن السياسة بطبيعتها المرنة من جهة والبرجماتية من جهة أخرى تجعل الأطراف يبحثون عن مصالحهم بديناميكية أكثر، وكلما كانت الإدارة أرشق، والمعلومات أوفر، فإن اتخاذ القرار يكون أسرع ومن ثم تكون الاستفادة أكبر وأعظم.

في أول رد فعل للرئيس الأمريكي دونالد ترامب على حادث حريق مرفأ لبنان وبعد ساعات من الحدث، غرد قائلا لعل التفجير حدث نتيجة تفجير أو قنبلة، ولعل تغريدة ترامب تشكك في رواية حزب الله والحكومة الموالية له، التي ذهبت إلى الإهمال وتصمم على السير في اتجاهه، وهو ما دحضه الخبير الإيطالي في المفرقعات دانيلو كوبي، وأكد أن انفجار مرفأ بيروت لم يكن بسبب نيترات الأمونيوم، بل سببه مستودع ذخيرة، ما يعني أن الرواية يمكن مراجعتها، وتحت هذا الضغط، لمح الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله نفسه باحتمالية أن يكون المستودع استهدف، ووضعها في صيغة الجدلية، لكنه في النهاية شكك في رواية حزبه على الأقل.

وهنا يحضر صاحب النفوذ الأكبر في لبنان والذي استطاع، رغم كل التجاذبات والمواقف الحادة مع بعض أطراف العملية السياسية من قبل المجتمع الدولي، أن يحافظ على مساحة توافق مع الجميع، ولعل الإرث التاريخي والثقافي جعل لفرنسا قبولا لدى غالبية اللبنانيين، وسريعا استطاعت المخابرات الفرنسية المتواجدة بقوة في لبنان تحريك البعض للمطالبة بعودة الانتداب الفرنسي، مستفيدة من الحنق الشعبيإزاء كل الطبقة السياسية اللبنانية وعلى رأسها بالطبع حزب الله.

التحرك الأمريكي بتغريدة ترامب، والزيارة الأسطورية للفاتح ماكرون لهما أهدافهما، وهما بكل تأكيد كوضع قدم أقوى وأكثر رسوخا في لبنان جارة سوريا، وشريك دول شرق المتوسط في غازه المتدفق، مطمع الجميع منذ سنوات، ولكل من أمريكا وفرنسا أغراض أخرى، فالأولى تريد أن تكون جارة لروسيا التي رسخت وجودها في طرطوس لتقول لها "نحن أقرب إليك من حبل الوريد" أما فرنسا فذهبت إلى لبنان لترسل رسالة لتركيا لا تبعد كثيرا عما تريد أمريكا، ففرنسا التي لا تطل على مساحات النزاع في شرق المتوسط تريد لها وجودا حقيقيا ملموسا تناكف به تركيا في شرق المتوسط وتدعم به اليونان العدو التاريخي لتركيا، حتى بعد التفاهمات والزيارات التي أجراها الرئيس التركي اردوغان إلى أثينا، ولا تستبعد أن توقيع اتفاق ترسيم الحدود الاقتصادية بين النظام في مصر واليونان والمبرمج مسبقا أدرج ضمن جدول زمني يشمل الخطة الكبرى، وإن كان مستبعدا لكنه محتمل، فكل شيء في عالم السياسة ممكن.

أصبح على تركيا الآن أن تكون أكثر حذاقة وأن تعيد تدوير العلاقات، فالخطوة التي اتخذتها تركيا في الأسابيع الماضية من إيجاد موطئ قدم لها في كل من النيجر بعد ليبيا قطعت على فرنسا خطا سهلا لمصالحها في إفريقيا، واتفاقها لتعاون عسكري مع عمان بعد قطر أرسلت رسالة قوية للإمارات والسعودية، الراعي المالي للنشاط الفرنسي المناهض لتركيا، ولعل النظام المصري يستفيد من التواجد الفرنسي المحتمل في لبنان، نكاية في تركيا، فلعل كلمة وزير خارجية النظام المصري في المؤتمر الصحفي الذي أعقب مراسم توقيع اتفاق ترسيم الحدود الاقتصادية بين اليونان وبلاده والتي تطرق فيها إلى الراديكالية والإسلام السياسي، كانت رسالة واضحة لتركيا، التي لا يهدأ النظام ولا إعلامه من توصيفها بالراديكالية، ما يعني أن النظام يقول إن الاتفاقية بالأساس موجهة لتركيا.

إذن فإن حريق أو إحراق مرفأ بيروت، ليس حدثا داخليا ولن تحقق فيه النيابة اللبنانية، ولكن هو حدث إقليمي سياسي بامتياز ستعقد له جلسات نقاشية في أروقة الدوائر السياسية والسيادية في دول حدودها متباعدة متصلة أو منفصلة في بعض الأحيان، لكن مصالحها مجتمعة في منطقة الشرق الأوسط ولعل مربعات اللعبة لم تكتمل بعد ولا يمكن التكهن بسياقات القواعد التي ستوضع في لعبة الصراع على غاز المتوسط، لكن ما يمكن مشاهدته، هو اتفاق بين دولة تريد أن تعيد أمجادها الاستعمارية ومحور الشر الجديد في المنطقة والداعم لها ماليا، ضد تركيا التي تحاول أن يكون لها مكان بين الكبار مستندة على دعم شعوب المنطقة لها، وتوقها للحرية التي يبشر بها الأتراك في خطابهم الناعم لتلك الشعوب. 

عن الكاتب

ياسر عبد العزيز

كاتب وباحث سياسي ومدير مركز دعم اتخاذ القرار في حزب الوسط المصري سابقا.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس