د. سمير صالحة - العربي الجديد

قال الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بعد تفقده مكان الانفجار الذي هزّ بيروت في 4 الشهر الماضي (أغسطس/ آب) إن لبنان ليس وحيداً. لكنه قال، في زيارته الثانية العاصمة اللبنانية، إنه حمل خطابا صريحا وصارما للقيادات التي التقاها في قصر الصنوبر (مقر السفير الفرنسي) من باب المجاملة، فمعالم الخطة الفرنسية للبنان الجديد بنكهة دولية بدأت تتبلور سياسيا ودستوريا، ولأن البلاد في أزمة كبيرة اقتصادية ومالية واجتماعية، تحتاج إلى حوار عملي صريح وسريع. ويستقوي ماكرون هنا بالورقة الأميركية التي تعوّل دائما على تأزيمٍ لا ينتهي للوضع في لبنان، وخصوصا في جنوبه لتوريط إيران وحزب الله في مستنقع الأزمات الداخلية والخارجية، لإجبارهما على تقديم مزيد من التنازلات في لبنان والمنطقة.

يقول ماكرون في بغداد إنه جاء ليدعم السيادة العراقية، وحق العراقيين في بسط نفوذهم على أراضيهم في مواجهة أنقرة وطهران. ولا يمكن فصل تنقلاته، المكثفة والمختصرة على خط بيروت – بغداد، عن الحراك الفرنسي الإقليمي الواسع على أكثر من جبهة، بدعم وتنسيق مصري وإماراتي وإسرائيلي ويوناني، في إطار مسار موحد يضع تركيا وإيران في سلة إقليمية واحدة، تتطلع إلى تقليص نفوذيهما ومحاصرتهما في مناطق جغرافية تتضارب فيها مصالح هذا التكتل مع مصالح البلدين.

الشعلة الفرنسية التي يرفعها ماكرون مرتبطة بالحراك التركي الإيراني الذي يغضب لاعبين كثيرين، كان لا بد من جمعهم حول طاولة واحدة، وهذا ما فعله الرئيس الفرنسي داخل دوائر منتدى الطاقة الشرق أوسطي، وحواره الأوروبي – الأطلسي، والتي كانت أولى نتائجها إنجازا فرنسيا تمثل بتكليف رئيس جديد للحكومة اللبنانية، فرضه هو على لبنان.

وبعد بيروت وبغداد، ليس مستبعدا أن نرى الرئيس في القاهرة وأبوظبي وتل أبيب، عواصم المحور الجديد، لا بل ليس مستبعدا دعوته إلى أول قمة عربية تعقد لاحقا ضيف شرف وضامنا دوليا جديدا للسياسات والمصالح العربية في مواجهة تركيا وإيران.

وقد ساهمت مناورات ماكرون الإقليمية في زيادة شعبيته الفرنسية، المتراجعة بسبب أكثر من أزمة سياسية وانتخابية واجتماعية، وهذا ما يحتاجه. وهو سعيد جدا على مستوى القيادات العربية التي أفرحها، وهو يقود عملية الاصطفاف الإقليمي ضد تركيا وإيران، ولكن المواجهة في بدايتها، لأن شعوب المنطقة من سيدفع الثمن كالعادة، ولا أحد يعرف تماما كيف سيكون الردّان، التركي والإيراني، حيث تلتقي جغرافيا المصالح بينهما في الشرق الأوسط والخليج وأفريقيا لمواجهة المشروع الفرنسي. وقد وعد ماكرون عواصم عربية بأنه سيحميها من إيران وتركيا، وأنه سيعمل جاهدا للإيقاع بينهما في المنطقة، خدمة لمشروع السلام العربي الإسرائيلي الذي تقوده واشنطن. ترى فرنسا أن الظروف مؤاتية للمساومة على فرص عودتها إلى المنطقة، عبر شركاء يحتاجونها في هذه الآونة، لكنها لا تريد أن تتذكّر أن هذه الشراكة غير مضمونة، وهي مرتبطة بما ستقوله واشنطن لحلفائها الذين ينسقون مع باريس. يعرف ماكرون استحالة اتخاذ أي قرار استراتيجي إقليمي، من دون الضوء الأخضر الأميركي والقبول الروسي، وأن عليه انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، وأن يراهن على فوز جو بايدن، ليعطيه ما يريد في المنطقة، أمام احتمال خيبة الأمل التي قد تواجهه: تحالف روسي تركي إيراني صيني إقليمي في مواجهة مشروعه الاصطفافي مع فرقاء يعوّل عليهم، وقد يغادرون الطاولة، ما إن تأمرهم واشنطن بذلك. يحاول ماكرون، في مواجهته مع الرئيس التركي، أردوغان، تفعيل المحور العربي الإسرائيلي الأوروبي الأميركي، ويحاول إغراء موسكو بعروضٍ جانبية، ويعرض على طهران الحياد مقابل حماية حصتها ونفوذها في لبنان وسورية والعراق، لكنه يتجاهل حجم الصعود التركي الإقليمي وقيمته وارتداداته على شركاء باريس في المنطقة أمام سيناريو معاكس للرغبات الفرنسية، مثل الاعتراض الروسي والرفض الأميركي لتكتلٍ يستهدف أنقرة من هذا النوع.

اختيار الدبلوماسي الفرنسي المخضرم، برنارد إيميه، الذي عمل في تركيا وسفارات فرنسية عديدة في المنطقة العربية، ليقود جهاز الاستخبارات الخارجية ليس عبثا، فماكرون يستعد، منذ أعوام، لملء الفراغ الاستراتيجي الإقليمي الحاصل بسبب التوترات الأميركية والروسية والإيرانية والتركية. نتائج لقاءات الرئيس الفرنسي في لبنان واستعداده للدفاع عن السيادة العراقية لا يمكن فصلهما عن الزيارة الخاطفة والسريعة التي قام بها رئيس إقليم كردستان العراق، نجيرفان البارزاني، إلى أنقرة، بعد اجتماع القيادات العراقية مع ماكرون في بغداد. ما الذي نقله البارزاني إلى الأتراك؟ وهل فعل ذلك باسم المجتمعين أم هو جاء بقرار منفرد يغرّد خارج السرب، ليحمي علاقاته بتركيا أمام سيناريوهات جديدة مرتقبة في مسار العلاقات التركية العراقية برغبة فرنسية؟

نتائج القمة الفرنسية اليونانية في هذه الآونة أهم من القمة الأوروبية المنتظرة وقراراتها بعد أسبوعين. هل ستنجح باريس في توريط أثينا في الحرب مع أنقرة؟ تتحدّث القيادات التركية عن العقل السليم وضرورة البحث عن الحل، عبر الحوار بين الدول المعنية والأطراف المتشاطئة في شرق المتوسط، لكن أي تغير في السلوك التركي سيكون مرتبطا باستعداد باريس قبل أثينا لتبديل سياستها وأسلوبها وتمسّكها بفرض نفسها على الملفات الإقليمية الحساسة التي تعرقل بناء حزام الثقة في المنطقة.

احتمال أن تكون محاولة إنعاش ذاكرة التاريخ المؤلمة في "معركة نافارين" عام 1827 التي فقدت القوات العثمانية وجيوش محمد علي والجزائر قواتهم البحرية فيها أمام التحالف الفرنسي البريطاني الروسي، والتي فتحت الطريق أمام التغييرات الجديدة في البحر الأيوني وشمال أفريقيا والشرق الاوسط. ما أغضب تركيا واستفزّها ودفعها إلى تذكير ماكرون وميتشوتاكيس أن المعادلات والظروف والاصطفافات تغيّرت، وأن حلفاء فرنسا الجدد لن يعطوها ما تريده، لأن ثقلهم الإقليمي والدولي لا يكفي، قد يكون مرتبطا بمحاولة ماكرون إزاحة الغبار عن بعض صفحات التاريخ الموجعة، وتلميحاته إلى أن على تركيا أن لا تتجاوز الخطوط الحمراء الموضوعة لها، لأن الرد سيكون ميدانيا.

وداخليا، سمّى دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية، التركي اليميني، قبل أيام، الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مرشحا للحزب في الانتخابات الرئاسية التي ستجري بعد أكثر من عامين. وهذه رسالة فيها استغرابٌ كثير على مستوى الداخل، ولكن قيمة الرسالة الحقيقية قد تكون ببعدها الخارجي للراغبين في إزاحة أردوغان عن كرسي السلطة، وحيث تعطي شركات استطلاعات الرأي "تحالف الجمهور" في شراكة الحكم الحظوظ الكبيرة لمواصلة قيادة المشهد السياسي في تركيا، خصوصا وأن قوى المعارضة تواصل تفكّكها وتشرذمها وخسارتها فرص الوحدة والمواجهة.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس