د. سمير صالحة - العربي الجديد

صادق الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، في أواخر الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، وبموجب المادة 102 من ميثاق الأمم المتحدة، على مذكرة التفاهم الموقعة بين تركيا وليبيا، والمتعلقة بتحديد مناطق الصلاحية البحرية للبلدين في شرق المتوسط. ويعني تسجيل الأمم المتحدة الإتفاقية الموقّعة في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وبطلب تركي، قبل تسعة أشهر يعني أن المنظمة الأممية لم تأخذ بالمذكرة الشفهية الإعتراضية المقدّمة الى مكتب غوتيريس في منتصف يوليو/ تموز الفائت من مصر والسعودية والبحرين واليونان وقبرص اليونانية، وأن الاتفاقية ليست معدومة الأثر القانوني كما قيل، وأنه يمكن تسجيلها لدى الهيئة الأممية، وأنها قبلت بالشخصية القانونية للطرفين، التركي والليبي، وحقهما في عقد اتفاقية من هذا النوع. وأن السكرتاريا العامة قالت عكس ما قاله وطالب به رئيس مجلس النواب الليبي، عقيلة صالح، في كتاب رسمي، يدعو فيه إلى عدم تسجيل مذكرة التفاهم، بذريعة تعارضها مع الاتفاق السياسي الليبي (الصخيرات) الموقع عام 2015، وأن الإتفاقية ليست تعدّياً على حقوق الدول المتشاطئة في البحر المتوسط، أو معاهدة اﻷﻣم اﻟﻤﺘﺤدة ﻟﻘﺎﻧون اﻟﺒﺤﺎر، وأنه بقبول الأمم المتحدة الإتفاقية، يتم قبول كل ما تتضمنه من بنود قانونية مرتبطة بتعيين الحدود البحرية في منطقة شرق المتوسط بين تركيا وليبيا. ويعني أيضاً، بحسب الأمانة العامة للأمم المتحدة، أن الاتفاقية كرست حق تركيا وليبيا القانوني في شرق المتوسط، لناحية عقد الإتفاقيات وحماية حقوقهما المائية.

مع قبول تسجيل الاتفاقية التركية الليبية في الأمم المتحدة، تكون أنقرة قد أفشلت كل محاولات عرقلة التفاهم التركي الليبي، وألزمت كثيرين باحترام حقوقها وحقوق طرابلس الغرب المشروعة في مياه المتوسط، وأسهمت بتكريس جلوسهما أمام أية طاولة حوار، تبحث تقاسم الغاز في المنطقة البحرية لشرق المتوسط، وحصلت على فرصةٍ تاريخيةٍ لقطع الطريق على محاولات عزلهما وإضعافهما وتهميش دورهما هناك، وأسقطت حلم الإصطفاف الإقليمي الذي قادته فرنسا ومصر واليونان والإمارات وإسرائيل ضد تركيا. والأهم سيكون طبعاً فتح الطريق أمام دعوات الرئيس التركي، أردوغان، إلى إشراك جميع الدول المتشاطئة في الاستفادة من خطط ترسيم الحدود البحرية، وتقاسم خيرات المنطقة الغازية بشكل عادل ومنصف، بدل التركيبة الاستعراضية التي نشأت بين بعض العواصم، لفرض نفسها على بقية الأطراف. ربطت اتفاقية ترسيم الحدود التركية الليبية بين مصالح تركيا في المتوسط وجنوب قزوين، حيث خطوط نقل الطاقة التي تعدّ لها بالتنسيق مع روسيا وألمانيا وأذربيجان، وهو ما يعني بناء معادلة استراتيجية تركية جديدة أمام خطوط تقاطع المصالح بين أميركا وروسيا والصين.

تضمن تركيا وليبيا، في أعقاب تسجيل اتفاقية الحدود البحرية بينهما أممياً حقهما في المشاركة برسم سياسات شرق المتوسط، وبعثرتا جميع السيناريوهات التي كانت تطبخ على حسابهما، ونجحا في فرض نفسيهما على المشهد لاعبيْن إقليميين. الوصول إلى هذا الإستنتاج مرتبط بحجم محاولات إسقاطه وإفشاله وجهود التعبئة والحشد التي رافقته، حتى عبر دولٍ لا يعنيها الموضوع مباشرة، مثل الإمارات والبحرين والسعودية وفرنسا. 

ولا يقل تسجيل الإتفاقية أهمية عن مضمونها وبنودها الاستراتيجية بالنسبة لتركيا وليبيا، لكن أبرز نتائجها الإعتراف بحق حكومة الوفاق الوطني في طرابلس الغرب عقد مثل هذه الاتفاقيات، طالما أن غايتها هي حماية مصالح ليبيا وشعبها. وتسجيل الاتفاقية فرصة حقوقية جديدة لكل الخبراء والسياسيين الذين راهنوا على استحالة قبولها، وبينهم عواصم عربية وأوروبية، بينها القاهرة وباريس. وقد كانت أصوات في القاهرة تهاجم "اتفاقية السرّاج وأردوغان"، وتحرّض على رئيس الحكومة الليبية الذي "وضع الإعلان الدستوري الليبي تحت نعليه"، كون حكومة طرابلس ليست أكثر من حكومة ظرفية لمجابهة ظروف استثنائية، وتسيير الأعمال اليومية الحياتية، وتطبّل وتزمّر، صباحاً ومساء، أن الأمم المتحدة ستردّ الطلب التركي، لتعارضه مع الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، والذي يعرّض السلم والأمن الدوليين للخطر. عادت الأصوات ذاتها لتبسيط ما جرى وتهميشه وتجاهله، ووصفه بأنه إجراء شكلي، لا قيمة له ولا شرعية، لأن الاتفاقية لاغية وباطلة، ولأن التسجيل لا يعني صلاحية الاتفاق، ولا يقيم أي التزام على أي دولة ثالثة، وأن قبوله سيكون لفتةً سياسية يتم استغلالها من السرّاج وأردوغان. أما باريس فحاولت جرجرة الإتحاد الأوروبي نحو الإعلان أن الإتفاقية تنتهك الحقوق السيادية للدول الثلاث المحيطة في تلك المنطقة، وأنها تتعارض مع قانون البحار، وأنه لا تتمخّض عنها نتائج قانونية ملزمة بالنسبة إلى الدول الأخرى، وكأن بروكسل هي مصدر التشريع والتنظير القانوني وتحديد الصلاحيات والحقوق والمسؤوليات في العالم. 

رفضت مصر توسّلات أردوغان، كما يقول أحد أساتذة القانون الدولي المصريين قبل أيام، لكن الأمم المتحدة رفضت توسّلات مصر وحلفائها الأربعة بإلغاء اتفاقية ترسيم الحدود البحرية التركية الليبية. أيهما أقوى سياسياً وقانونياً، مزاعم التوسّل السياسي واستنتاجاته أم التبني القانوني للأمم المتحدة لتفاهمات أنقرة وطرابلس وتكريسه وتثبيته؟

مهما سعى بعضهم للتخفيف من ارتدادات الخطوة الأممية، فهي جعلت من الاتفاقية التركية الليبية اختراقاً استراتيجياً للبلدين في المنطقة الإقتصادية الخالصة التي تجمعهما، وستزيد مساحة الجرف القاري التابعة لهما بنسب كبيرة. وستُسقط خطة اليونان الهيمنة على المساحة الأوسع عبر لعب ورقة جزيرة كريت وقبرص اليونانية، وستلزم بقية الأطراف المتشاطئة بتذكّر حقوق القبارصة الأتراك وقطاع غزة، وعدم اتخاذ القرارات على حساب لبنان وسورية. ولكن المستغرب يبقى التحرّك السعودي الإماراتي البحريني في شرق المتوسط للإعتراض على اتفاقية تعقدها دولة عربية، وتحمي مصالحها وحصصها المائية في مواجهة اليونان وإسرائيل وقبرص اليونانية.

يحاول بعضهم في الداخل الليبي التصعيد ضد الإتفاقية، وطرح عدم قانونيتها عبر البرلمان. هل تحمي هذه الاتفاقية مصالح ليبيا في شرق المتوسط، وتعطيها حقوقها البحرية، وتقوّي يدها في مفاوضاتها المستقبلية مع بقية الدول المتشاطئة، خصوصاً مع وجود نزاعات بحرية معروفة بين إيطاليا ومالطا؟ كيف يذهب البرلمان الليبي الجديد وراء إسقاط مكسب استراتيجي من هذا النوع إرضاءً لبعض العواصم الإقليمية؟ تساعد نقاشات الإتفاقية التركية الليبية في مصر قيادات شرق على ليبيا على تحديد مواقفها ربما. وقد نشرت وسائل إعلام عربية أخيراً وثيقة مسربة من الخارجية المصرية، توصي بعدم توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع اليونان، لأنه يضر بمصالح مصر، ويختصر مساحة كبيرة من حدودها البحرية، ويمنعها من توقيع اتفاقية مستقبلية مع تركيا. وقد قال وزير خارجية مصر، سامح شكري، إن الاتفاق البحري بين تركيا وليبيا لا يمسّ مصالح مصر، فما الذي ستفعله، ولمن ستعطي الأولوية، هل تعطيها لحلفها الإقليمي الجديد مع اليونان وإسرائيل وفرنسا على حساب بقية الدول المتشاطئة، حتى ولو كانت من أهل البيت؟ الورقة مرة أخرى في ملعب مصر وقيادات شرق ليبيا حول رصد ما يجري ورسم السياسات على أساسه.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس