سعيد الحاج - TRT عربي

رغم مرور عدة أيام، ما زالت أصداء تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن الإسلام تتردد داخلياً وخارجياً على طول العالم الإسلامي. فقد كان ماكرون قال إن “الإسلام يعيش اليوم أزمة في كل مكان في العالم”، معلناً أن على بلاده “التصدي للانعزالية الإسلامية الساعية إلى إقامة نظام موازٍ وإنكار الجمهورية الفرنسية”، وداعياً إلى “فهم أفضل للإٍسلام”.

ردود الفعل الرافضة للتصريحات أتت أولاً من هيئات ومؤسسات مسلمة داخل فرنسا، حذرت من أن تؤدي إلى زيادة مستوى الكراهية ضد الإسلام والمسلمين وتداعيات ذلك على مسلمي فرنسا تحديداً. خصوصاً وأن التصريحات أتت بين يدي خطة جديدة تسعى لمواجهة ما سمي بـ”النزعات الانفصالية” أو “الانفصال الشعوري”.

بينما شاركت مؤسسات وشخصيات عديدة في العالمين العربي والإسلامي في التنديد بتصريحات ماكرون، في مقدمتها الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين والأزهر الشريف ومفتي سلطنة عمان والمجلس الإسلامي السوري وجبهة العمل الإسلامي في الأردن، وعدد كبير من التيارات والأحزاب والنخب والناشطين. وقد عدَّ هؤلاء التصريحات أحَدَ أشكال العنصرية، ورأوها “استفزازية” و”مؤججة لمشاعر المسلمين” بل ومتأثرة بأجواء “الحروب الدينية في العصور الوسطى” وفق بعضهم.

اكتنف كلام ماكرون عدة مغالطات منهجية، أولها صدورها عن رئيس إحدى الدول، بما يتناقض بشكل واضح مع تقييم دين كالإسلام فضلاً عن الدعوة لإعادة فهمه بطريقة مختلفة. فماكرون هنا ليس فيلسوفاً ولا مفكراً ولا أكاديمياً وليس بالتأكيد شخصية دينية ذات اختصاص ليدعو إلى ذلك، وإنما صاحب مصلحة وأهداف سياسية مما قال.

كما أن ثمة خلط واضح في كلامه بين الإسلام كدين ومعتقد وبين تمظهراته السياسية، دولاً وأحزاباً وتيارات. فضلاً عن أن أدوات تقييم الدين ليست المشاكل والأزمات وعدم وحدة معتنقيه وما إلى ذلك، بل هناك حاجة – إذا ما سلمنا بفكرة تقييم الدين – لمعايير مختلفة مثل مدى انتشاره وقبوله …الخ. وإذا ما تجاوزنا ذلك جدلاً، ووفق منطق ماكرون، ألا يمكن القول إن المسيحية واليهودية وحتى الشرائع غير السماوية تواجه أزمات ومشاكل هي الأخرى؟!! هل يبدو العالم المسيحي أو الكاثوليكي أو الأرثوذكسي أو اليهودي موحداً مثلاً؟!!

كما ويتضمن كلام الرئيس الفرنسي نفس منطق التعميم المتكرر في الغرب، بحيث يوصم دين يعتنقه ما يقرب من مليارَيْ إنسان على وجه البسيطة ببعض أفعال عدد قليل من الأفراد أو التيارات، بما يتناقض مع أي منهج علمي أو منطق موضوعي.

أكثر من ذلك، ثمة تناقض كبير بين ما يقوله الرجل والعلمانية التي يُفترض أنه يدعو إليها ويدعّي السعي لحمايتها. فهو هنا لا يدعو لفصل الدين عن الدولة أو حياد الأخيرة بين الأيديولوجيات المختلفة، وإنما إلى التضييق على الدين ونفيه من الحياة العامة تماماً. وليس أدل على ذلك من الجدل الكبير الذي دار مؤخراً في فرنسا حول حجاب رئيس اتحاد الطلاب في جامعة السوربون، رغم أنه ليس شعاراً سياسياً ولا يمكن فهمه في إطار نفي الآخر أو الكراهية الدينية والعنصرية.

إذن، تسقط هنا دعاوى ماكرون، ويتأكد لنا أنه يصْدُرُ عن نظرة فوقية تتناسب مع الماضي الاستعماري لبلاده، وعلمانية متشددة انتهجتها فرنسا وما زالت، وعن خطاب كراهية وعنصرية، في سعيه للتنافس مع اليمين الشعبوي في بلاده في المحطة الانتخابية المقبلة. وقد كتبتُ سابقاً أن خطورة هذا التيار ليست مشروطة بوصوله إلى السلطة بل بمجرد وجوده وتناميه، لأنه يعتمد خطاب مزاودة على الشخصيات والأحزاب الحاكمة تضطرها لمحاولة مجاراته، فتجد بعض سياساته ومطالباته طريقَها للنور وهو في صفوف المعارضة.

بالنظر لكل ذلك، يمكن بكل أريحية أن نقول إن ردة الفعل على تصريحات ماكرون كانت دون المستوى، لا سيما على المستوى الرسمي الذي يفترض أنه يمثل الشعوب المسلمة. ولسنا هنا في معرض الرد على من طالب بالتفاعل مع كلام ماكرون والاستفادة منه للقيام بمراجعات ما، فذلك منطق متهافت سبق الردُّ على بعض منطلقاته.

لم تطالعنا ردات فعل مُنددة بهذا الخطاب من منظمة التعاون الإسلامي أو الجامعة العربية أو رؤساء الدول ذات الأغلبية المسلمة، ربما باستثناء الرئيس التركي. فقد قال الأخير إن تصريحات نظيره الفرنسي “استفزاز واضح وتفتقد للاحترام”، كما رأى بأن دعوته لإعادة هيكلة الإسلام “وقاحة وقلة أدب”.

ثمة من يرى بأن رد اردوغان على ماكرون ينبع من الخصومة الواضحة بين بلديهما مؤخراً والتي اتخذت أحياناً طابعاً شخصياً. حيث تقود فرنسا حملة تجييش وتحريض ضد تركيا في عدة ملفات، من ليبيا إلى سوريا ومن لبنان إلى العراق ومن شرق المتوسط إلى تصعيد القوقاز الأخير، وبما يشمل دعم انقلابي مثل حفتر متهم بارتكاب جرائم حرب والتنكر لحقوق تركيا في الثروات الطبيعية وتجاهل الوضع القانوني للأراضي الأذربيجانية المحتلة.

لا شك أن هذه الخصومة ستجعل من رد اردوغان أكثر حدة وترفع سقف خطابه إزاء ماكرون، لكنها لا تكفي لتفسير موقفه، لا سيما وأن له مواقف سابقة مع آخرين في نفس السياق، حين رفض مثلاً استخدام المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لمصطلح “الإرهاب الإسلامي”، في مؤتمر صحافي مشترك بينهما في 2017.

ففي المقام الأول، هناك خلفية اردوغان الشخصية كفرد محافظ نشأ ضمن تيار “الميللي غوروش” أو الفكر الوطني ذي التوجه الإسلامي، وبالتالي فشخصيته ترفض ولا ششك هذا الخطاب المستهدف للدين الإسلامي، مثله مثل أي فرد آخر.

كما أن اردوغان وحزبه، العدالة والتنمية، حريصان عادة على التناغم مع توجهات الشارع التركي عموماً وفي القضايا المتعلقة بالهوية على وجه الخصوص. ومن البديهي أن الشعب التركي في عمومه رافض لتطاول الرئيس الفرنسي بهذه الطريقة، ولذا فقد أتت الإدانات من الأحزاب التركية بمختلف توجهاتها، وفي مقدمتها العدالة والتنمية المحافظ والشعب الجمهوري الكمالي والحركة القومية القومي.

وهناك ما يتعلق بسعي أنقرة لأن تكون دولة رائدة في العالم الإسلامي، أو قائدة له، ما يرتّب عليها مسؤوليات تتخطى الشأن الداخلي التركي إلى البلدان الأخرى والمسلمين في الغرب. كما أنها تسعى لأن تكون صوت المسلمين والعالم الإسلامي في المحافل الدولية، ولذلك يتكرر في خطابات الرئيس التركي، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة مثلاً، حديث عن مشاكل العالم الإسلامي، في ظل شعار “العالم أكبر من خمسة” الذي يرفعه للإشارة إلى أزمة النظام العالمي الحالية والغبن الذي يُلحقه بكثيرين وفي مقدمتهم المسلمين.

أخيراً، إن تفرد اردوغان بالرد على تصريحات ماكرون هي انعكاس بديهي ومباشر لغياب أي تعقيب – فضلاً عن تنديد – بخطاب الأخير من رؤساء وزعماء الدول الإسلامية الأخرى كما ينبغي ويُفترض، إن لم يكن رفضاً مبدئياً لما قاله فتناغماً مع شعوبهم على أقل تقدير. وعليه، فربما لا ينبغي أن يُسأل عن سبب رد اردوغان على ماكرون، وإنما عن لواذ الآخرين بالصمت إزاءها.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس