(صورة لخروج العثمانيين من نيقوبول البلغارية عام 1877م)
 

ترك برس

في كتابه "السلطنة العثمانية ومكانتها في التاريخ الأوروبي"، يشرح المؤلف والمؤرخ التركي الراحل خليل إينالجيك (1916-2016) الدور المهم للسلطنة العثمانية في التأثير في التاريخ الأوروبي بالتزامن مع بداية عصر النهضة.

ويناقش الأستاذ السابق بجامعات بيلكنت في أنقرة وشيكاغو وبرينستون وهارفارد -في الكتاب الذي صدرت ترجمته العربية عن الدار العربية للعلوم ناشرون- الظاهرتين السياسية والاجتماعية في القارة الأوروبية خلال القرن الـ18.

وظهرت الدولة العثمانية للمرة الأولى على خريطة تاريخ العالم بوصفها إمارة صغيرة تحيط بها الدولة السلجوقية شرقا والإمبراطورية البيزنطية في شمال غرب الأناضول. ولكن هذه الإمارة الصغيرة توسعت بسرعة، إذ تحوّلت إلى دولة عظمى خلال الفترة ما بين 1402 و1489، وامتدت حدودها لاحقا لتصل نهر الدانوب في الشمال، والفرات في الشرق، وكانت تبسط حكمها على أكثر من عشرين قومية.

ويركز الكتاب على التجربة السلطانية المبكرة التي توقفت فجأة، حيث تمكّن العثمانيون من هزيمة الصليبيين والتحالف المجري البلغاري الويلزي الفرنسي البرغندي الألماني في العام 1396 في معركة  نيقوبوليس الواقعة في بلغاريا الحالية، لكن العثمانيين خسروا معركة أنقرة التي انتصر فيها القائد التتري تيمورلنك، وأسر السلطان العثماني بايزيد الأول، ودخلت السلطنة في عهد الفترة الذي كاد أن يقضي على الدولة العثمانية، مما أدى إلى فقدان سلطنة العثمانيين في أوروبا وآسيا تماسكها. 

(كتاب السلطة العثمانية وأوروبا لخليل إينالجيك)

ولاحقا، يوضح إينالجيك، استعاد العثمانيون هيمنتهم على أقصى شرق أوروبا في معركة فارنا 1444 على أراضي البلقان، ووجهوا ضربة قاسية للإمبراطورية البيزنطية، وأعقب تلك المعركة تحوّل الدولة العثمانية إلى سلطنة آسيوية غربية امتدت رقعة أراضيها إلى الشرق الأوسط وإلى شبه جزيرة البلقان وقارتي آسيا وأوروبا لأكثر من خمسة قرون حتى عام 1922. 

تطرَّق إينالجيك، في الفصل التاسع من الكتاب، إلى دور السلطنة العثمانية في ميزان القوى الأوروبي خلال الحروب الإيطالية الضارية بين عامي 1494 و1559. وتحديدا موقعة قوصرة الثانية في 1448 (857هـ)، وهي المعركة التي مهّدت الطريق للسلطان محمد الفاتح لفتح العاصمة البيزنطية (القسطنطينية) في 1453 (857هـ). وقد أحدث هذا النصر العثماني هزة سياسية في أوروبا، وبدأت أوروبا تحشد قواتها وقواها لمواجهة ما سمّته الخطر الإسلامي.

ويرى المؤلف أنّ سقوط القسطنطينية شكَّل صدمة نفسية كبرى لا تقل عن تلك التي أحدثها وباء الطاعون حين اجتاح أوروبا، وأصبحت السلطنة الأناضولية واحدة من مراكز القوى العالمية الكبرى.

ويؤكد المؤلف أنّ الإمبراطورية العظمى أدت دورا مصيريا في الصراع في القرن الـ16 في فترة بداية نهوضها بوصفها قوة عظمى في الشرق منافسة لآل هابسبورغ (هم إحدى أهم العائلات المالكة في أوروبا، وتشتهر بأنها مصدر الأباطرة المنتخبين رسميا لحكم الإمبراطورية الرومانية المقدسة بين 1438–1740). 

وحاول إينالجيك تتبع الإستراتيجيات التي اعتمدتها السلطنة العثمانية في الحفاظ على توازن القوى في أوروبا في القرن الـ16. من خلال رصد عدد من المساعدات التي قدمتها السلطنة للدول الأوروبية،  ففي العام 1494، عندما كان ملك فرنسا شارل الثامن يستعد لغزو إيطاليا، أملت الولايات البابوية في الحصول على مساعدة من العثمانيين، وفقاً لتقرير نشرته "الجزيرة نت."

وقد اعترف الملك الفرنسي فرانسيس الأول (1515-1547) خلال صراعه مع الإمبراطور الروماني تشارلز الخامس، بأن الوحيد القادر على الوصول لمناطق تشارلز الخامس في أوروبا هو السلطان سليمان القانوني (1520-1566)، وحصل الأمير الفرنسي هنري على التاج البولندي (1573) نتيجة دعم كبير من العثمانيين الذين عارضوا مُلك آل هابسبورغ في بولندا. 

ويقول إينالجيك إن التبادل العميق في العلاقات الفرنسية العثمانية أدى دورا مهما في تشكيل الخريطة السياسية الأوروبية في العصر الحديث. وأثناء وقوع ملكة بريطانيا إليزابيث الأولى (1558-1603) في إنجلترا تحت تهديد الأسطول الحربي الإسباني، طلبت تحرك الأسطول البحري العثماني في البحر المتوسط ضد إسبانيا. 

صراع البابا والسلطان
ويلفت المؤرخ التركي النظر إلى سيطرة العثمانيين على طريق الحرير عبر بسط نفوذهم على تبريز وجورجيا وبحر قزوين في الفترة بين 1526 و1547، مما جعل السلطان العثماني يشعر بأنه خليفة وفقا للتقاليد الإمبراطورية الرومانية (حتى ولو كان مسلما)؛ وهو ما أدى إلى استمرار صراع الإمبراطور والبابا مع الدولة العثمانية على جبهتين، الأولى هي اليابسة في أوروبا الوسطى، والثانية هي البحر المتوسط، وتشكّل لذلك "حلف أوروبي مقدّس" في العام 1538 ضد العثمانيين بجهد من بابا الفاتيكان.

ويبيَّن الكاتب أَنه على الرغم من امتلاك الدولة العثمانية أراضي واسعة في أوروبا، لم ينظر للدولة في أي وقت من الأوقات على اعتبارها جزءًا من التركيبة الثقافية الأوروبية لأسباب تتعلق بالدين واللغة، وصُوِّرت السلطنة العثمانية عموما ونُظِر إليها على أنها الخصم والنقيض لأوروبا في التاريخ الغربي. 

التحولات الكبرى
وقارن إينالجيك بين التحولات الجغرافية الكبرى التي حدثت في العالم، والتي أظهرت مراكز دولية وليدة تجمَّع لديها من الإمكانات ما جعلها قادرة على إخضاع السلطنة العثمانية، والتي كانت تعاني من الضعف والتراجع، مبينا دور السلاطين الذين انتبهوا إلى أن هناك مشكلة بالنسبة لِما يحصل على مقربة منهم في أوروبا.

وذكر الكاتب محاولات الإصلاح التي باشرها الباب العالي في إسطنبول والتي فشلت في عملية الإنقاذ، نظرا إلى افتقار السلطنة إلى معرفة تاريخية تقرأ الأسباب الحقيقية التي أسّست ذلك الافتراق بين القوتين على المستويين المدني والمعرفي، وشجع هذا التفاوت بين القوتين الأوروبية والعثمانية الدول الاستعمارية الصاعدة دوليا على التنافس للسيطرة على مناطق شاسعة وغنية بالخامات تشرف أو تطل على خطوط الملاحة الدولية.

الإمبراطورية القَلِقة
ويرى إينالجيك أن شعلة الإمبراطورية قد انطفأت لاحقا في قرنها الأخير ولم تعد قادرة على مواجهة القوى الأوروبية المنافسة كما كانت قبل قرنين من الزمان إبان السلاطين العظام من أمثال محمد الفاتح وسليمان القانوني وغيرهما، إذ باتت فريسة للدول الأوروبية المختلفة الطامعة في أراضيها، ولكن للسياسة الدولية أحكامها، إذ لم تسمح هذه حقا بتفتيت كيان الدولة لأسباب تتعلق بالتوازنات الداخلية للنظام الأوروبي، حيث كتبت الإمبراطورة النمساوية الشهيرة ماريا تيريزا "إن تقسيم الدولة العثمانية سيكون من أخطر المشاريع الأوروبية، وسيكون له عواقبه الوخيمة.. فماذا سنكسب من التوسع حتى ولو إلى حدود القسطنطينية سوى العواقب السلبية. لن أسمح أبدًا بتفتيت الإمبراطورية التركية، وأتمنى ألا يشهد أحفادي من بعدي طردها من أوروبا".

آخر السلاطين
ويرى الكاتب أن تراجع الإمبراطورية العثمانية إلى دولة صغيرة محصورة بين أرمينيا واليونان يعود إلى دخول الباب العالي الحرب العالمية الأولى 1914 حليفاً لألمانيا. حيث عَدَّهُ مؤلف الكتاب بمثابة النهاية للدولة العثمانية عملياً بوصفها إمبراطورية، وأعادها إلى الدولة التركية التي ولدت في عهد عثمان وابنه أورخان في القرن الـ13، قبل أن يأتي الماريشال مصطفى كمال أتاتورك إلى إسطنبول بالسَّفينة من مدينة سلانيك (في اليونان اليوم) حيث قدَّم نفسه لاحقا راعياً للحداثة التركية، حسب إينالجيك.

وقد أعلن أتاتورك في أوائل سنة 1923 أن حكم آل عثمان قد انتهى واستُبدلت به دولة تركية جديدة. وتمّ إبلاغ هذا القرار المهم إلى آخر السّلاطين وحيد الدين، الذي اضطر إلى اللجوء إلى بريطانيا بواسطة السفينة الإنجليزية مالايا. وقد أنهى هذا القرار السلطنة العثمانية التي امتد حكمها ستة قرون. 

ويشير الكتاب إلى أن ما يميز تغييرات أتاتورك هو فجائيتها الثورية، ففي الفترة الممتدة ما بين 1922 و1927. ظهر كمال ثوريا راديكاليا؛ وبحسب كتاب المؤرخ التركي أيلبير أورتايلي "الغازي مصطفى كمال أتاتورك"، فقد كان أتاتورك قادرا على العودة إلى "المقطورة القديمة" حتى بعد إعلان الجمهورية، ولكنه لم يفعل ذلك. 

وشدد إينالجيك في كتابه على أن السلطنة العثمانية دولة "أوروبية" على الأقل من منظور أقاليمها الجغرافية، فالدولة التي أُسست في جنوبي شرقي أوروبا ووسطها، ومن القرم إلى بودا (عاصمة المجر العثمانية التي تحولت لاحقاً إلى بودابست) لخمسمئة عام، أثرت بشكل حضاري وسياسي في من حولها، وكان تأثيرها عميقا في دول البلقان من كل النواحي، وحتى الآن لم يستطيعوا إلغاء هذا التأثير رغم محاولات محوه من قبل الدول الحديثة.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!