د. باسل الحاج جاسم - إندبندنت عربية

تثير عودة المعارك في جنوب القوقاز، وتجدد المواجهات بين أذربيجان وأرمينيا التساؤلات بشأن مواقف الأطراف الإقليمية والدولية، المتصلة بهذا النزاع منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي، بالإضافة إلى ما تريده كل من باكو ويريفان.

ورد في تقرير وكالة المخابرات المركزية الأميركية عام 1988 بعنوان "الاضطرابات في القوقاز وتحدي القوميين"، الذي رفعت عنه السرية في 1999، بأن موسكو لم تتمكن من التوصل إلى اتفاق بين الأذربيجانيين والأرمن، ولم يكن أمامها بديل سوى إرسال قوات إلى المنطقة لوقف العنف.

واشتبك الأرمن والأذربيجانيون بعد عام 1991، مع تفكك الاتحاد السوفياتي، وتمكن الأرمن بدعم روسي من السيطرة على إقليم ناغورنو قره باغ، ومنطقة آمنة تضم سبع مناطق أذربيجانية تحيط بالإقليم، ما خلف مئات الآلاف من اللاجئين، أغلبهم من الأذربيجانيين الذين لجأوا إلى بقية أذربيجان.

تتمثل إستراتيجية يريفان في تحقيق الاعتراف بإقليم ناغورنو قرة باغ كدولة مستقلة، من أجل إجراء استفتاء على دمجه في أرمينيا لاحقاً. في المقابل، ترغب أذربيجان في استعادة السيطرة على أراضيها وفقاً للقانون الدولي، وبحسب باكو، فإن النقاش حول الحكم الذاتي للمنطقة أمر ممكن شريطة أن يتمكن اللاجئون الأذربيجانيون من التصويت في الاستفتاء.

لم يكن موقف الولايات المتحدة الأميركية مختلفاً عن الأطراف الأخرى في هذا النزاع، ومر بمحطات مختلفة خلال 30 عاماً الماضية، وأخذ في بعض الأوقات طبيعة غامضة، حين يكون النقاش صعباً على واشنطن، التي تفضل تجنب الغوص في تفاصيل الموضوع، حتى لا توتر العلاقة مع أنقرة داخل الناتو (كانت النظرة إلى تركيا كرأس حربة في مواجهة المعسكر الشرقي)، وكي لا تستفز اللوبي الأرمني في الولايات المتحدة.

أعلن الرئيس التركي تركت أوزال، أوائل التسعينيات، الحاجة إلى المسؤولية السياسية للبلاد عن الجمهوريات "الناطقة بالتركية". وفي عهده، اتخذ قراراً بإغلاق الحدود البرية مع أرمينيا، التي كانت في ذروة مواجهتها العسكرية مع أذربيجان.

يأتي ميل واشنطن نحو أرمينيا إلى حد كبير من خلال الرغبة في الضغط على تركيا، ولا يتعلق الأمر بالعلاقات الأرمينية - التركية، بقدر ما يتعلق بالخلافات الأميركية - التركية في الشرق الأوسط، التي تفاقمت بعد عام 2011 في الحرب السورية، من خلال دعم إدارة الرئيس السابق باراك أوباما جماعات انفصالية مصنفة على قوائم الإرهاب في حلف الناتو، وتهدد مصالح دولة عضو في هذا الحلف.

لا يمكن إغفال خشية واشنطن، التي تواجه مشكلات متزايدة في العلاقات مع أنقرة خلال السنوات الأخيرة، أن تتجاوز تركيا إطار التضامن الأوروبي الأطلسي، نظراً للمشكلات في علاقات تركيا مع اليونان وفرنسا، لكن حتى هذا النوع من التعاون المشوب بالإشكاليات، يبدو أكثر ملاءمة لواشنطن من انهياره الكامل، وبروز تعاون محتمل بين اللاعبين الآخرين في المنطقة، الأمر الذي يمكن أن يهدد النفوذ والمصالح الأميركية.

تحدث الرئيس الأميركي دونالد ترمب في اليوم التالي لاندلاع المعارك في سبتمبر (أيلول) الماضي، أن بلاده تتمتع "بعلاقات جيدة" بمنطقة القوقاز، ووعد أيضاً برؤية كيف يمكن لواشنطن أن توقف الصراع. وناشد وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو أخيراً، أرمينيا وأذربيجان بالامتثال لاتفاق وقف إطلاق النار، وقال "يجب أن يتم حل هذا الصراع من خلال المفاوضات والمناقشات السلمية، وليس من خلال النزاع المسلح، وبالتأكيد ليس مع دول أطراف ثالثة، تأتي لتضفي قوتها على ما هو بالفعل برميل بارود".

بدأ التحرك الأميركي نحو إقليم ناغورنو قرة باغ في فترة "البريسترويكا"، وقبل انهيار الاتحاد السوفياتي، وكانت إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش تنظر إلى أرمينيا على أنها حليف محتمل في منطقة القوقاز. ووجه عام 1990 السيناتوران كلايبورن بيل وجون كيري خطاباً إلى الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، من أجل نقل الإقليم إلى جمهورية أرمينيا السوفياتية، واستمر الموقف الأميركي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، حيث أقر الكونغرس عام 1992، حظر تقديم المساعدة العسكرية لأذربيجان، بالإضافة إلى أمور أخرى تتعلق بمساعدات لأرمينيا.

أصبح موقف واشنطن أكثر تعقيداً وتناقضاً عام 1994، بعد أن تم تسهيل مشاركة الشركات الأميركية في تطوير احتياطيات الطاقة في بحر قزوين، ووصلت رسالة أن أذربيجان العلمانية ذات السياسة الخارجية التي يمكن التنبؤ بها، يمكن أن تكون مهمة للغاية للمصالح الأميركية في منطقة القوقاز وبحر قزوين، وجرت مراجعة كبيرة للمواقف السابقة من الإدارة الاميركية المؤيدة للأرمن، بعد زيارة الرئيس الأذربيجاني حيدر علييف للولايات المتحدة في النصف الثاني من عام 1997.

واعتُمد عدد من الاستثناءات المهمة، فقد سُمح بإقامة تعاون متبادل المنفعة بين باكو وواشنطن، وفي الوقت نفسه بدأ أعضاء مجلس الشيوخ المؤثرين، بينهم ريتشارد شيلبي، في التحدث علناً عن إلغاء قرارات سابقة تتعلق بأذربيجان. وبعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، عندما أصبحت مكافحة الإرهاب الدولي على رأس أولويات السياسة الخارجية الأميركية، طلب البيت الأبيض من الكونغرس تجاوز كل القرارات السابقة، بهدف مساعدة أذربيجان، وباتت الأخيرة بالفعل حليفاً لواشنطن في الحرب ضد الإرهاب، واعترفت وزارة الخارجية الأميركية بأن جزءاً من الأراضي الأذربيجانية تحتلها أرمينيا. 

يرتبط نهج واشنطن تجاه القوقاز بعديد من العوامل، لعل أبرزها العلاقة مع اللاعبين الثلاثة الفاعلين في المنطقة، روسيا وتركيا وإيران، وكذلك قضايا أمن الطاقة ومكافحة الإرهاب. ويتحدد الاقتراب إلى أذربيجان بأكثر من عامل، بينها سياسة محاصرة طهران، كما يُنظر إلى تعاون أرمينيا مع روسيا وإيران على أنه تحد خطير لموقف الولايات المتحدة في القوقاز.

ونجد في السنوات الأخيرة اهتماماً كبيراً بأذربيجان في مجال الطاقة، بهدف ضمان إمدادات الطاقة إلى أوروبا عبر طرق بديلة للخطوط الروسية، وزادت باكو أخيراً، نشاط الضغط في واشنطن بشكل ملحوظ عبر الشركات التي لها تأثير في هذه السوق.

عن الكاتب

د. باسل الحاج جاسم

كاتب وباحث في الشؤون التركية الروسية، ومستشار سياسي، ومؤلف كتاب: كازاخستان والآستانة السورية "طموحات نمر آسيوي جديد وامتحان موسكو"


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس