ترك برس-الأناضول

بمجرد أن تطأ قدماك شوارعها وأزقتها التاريخية، تأخذك مدينة ماردين التركية في رحلة عابرة للزمن تتذوق فيها تمازج حضاري وثقافي وديمغرافي متفرد ومنقطع النظير.

ماردين الواقعة جنوب تركيا بالقرب من الحدود السورية، يقطنها نسيج اجتماعي وديني متشابك، تظلله عبق تاريخي وديني وعرقي يجمع بين طياته المسلمين والمسيحيين والعرب والأتراك والأكراد دون نغمة نشاز.

وتستقطب المدينة القديمة سنويا ملايين السائحين من داخل تركيا وخارجها، يعبرون أحياءها القديمة سيرا على الأقدام ويصعدون أدراجها العتيقة وكأنهم يترجلون بين دفتي الكتب التراثية التاريخية المثيرة.

ويزيد من روعة ماردين وجودها على سفح أعلاه قلعة تاريخية، وتشرف بشكل مباشر على سهول خصبة تشكل شمال حضارة الرافدين، وتزرع وتقدم الغذاء لتركيا والعالم.

* ثراء حضاري

تتميز مادرين بالحجر الخاص بالمنطقة والطين المميز، وعثر فيها على أقدم ختم طيني في العالم، واستخدمت الألواح الطينية في حضارة الرافدين للكتابة وكان عنصرا مهما في التعليم بالتاريخ القديم.

ويدلل تداخل الأديان واللغات في المنطقة على التنوع الحضاري الذي حكم المنطقة، إذ يعتقد أنها مأهولة منذ أكثر من 10 آلاف عام قبل الميلاد، والآثار الحالية الموجودة فيها تعود إلى 3 آلاف عام قبل الميلاد، بحسب مديرية الثقافة في الولاية.

وحكم الآشوريون والأكاديون والحوريون المنطقة قبل الميلاد، ومعروف أن السومريين لديهم دور في تطوير الكتابة، كما أن المدينة خضعت لحكم البابليين، ووصلت ذروتها في حكم حمورابي.

ولإمبراطورية روما آثارها على المنطقة أيضا، حيث كانت هذه المنطقة ساحة نزاع مع الساسانيين الفرس لتعود لحكم البيزنطيين ومنها للحكم العربي الإسلامي في عام 641 م.

كما لعبت عشائر بني تغلب وبكر وتميم دورا مهما في تاريخ ماردين، وكانت المدينة مرتبطة بالخليفة في مكة ومن ثم بدمشق في زمن حكم الأمويين، وهكذا انتقلت بين الخضارات الإسلامية وصولا إلى الدولة العثمانية.

*عابرة للأزمان

بنيت المدينة القديمة على سفح جبل ماردين، وتقع أسفل قلعة معلقة أعلى تلة صخرية في موقع استراتيجي، وترتصف بيوت المدينة على السفح بحيث لا تغلق إطلالة وشرفة البيوت الأخرى، في مشهد استثنائي يمنح السكان إطلالة رائعة على السهول الخصيبة الواصلة إلى الحدود السورية.

المدينة القديمة تتميز أيضا بأزقتها الضيقة وأدراجها الأثرية التي تنقل المارة بين شوارعها وأسواقها في رحلة تاريخية عابرة للأزمنة، ويفتح شهية صناع الأفلام في العالم على التصوير فيها.

ومن أهم المعالم التي تتمتع بها مدينة ماردين هو احتوائها على مبان قديمة تعود للعصور الإسلامية، ومنها المدارس القديمة، وأهمها القاسمية والزنجيرية.

والقاسمية، كانت مركزا تعليميا مهما بني في فترة حكم الأيوبيين، وسميت بهذا الاسم نسبة إلى حاكمها قاسم شقيق آرتوق بي الذي ذهب مع صلاح الدين الأيوبي لاستعادة القدس من الصليبيين عام 1187م، ثم تحولت إلى متحف لعرض بعض الآثار الإسلامية المتميزة.

وتتألف المدرسة من باحة في منتصفها حوض مائي يستخدم بدروس علم الفلك، ويحيط الباحة قاعات صغيرة فوق كل واحدة منها رمز العلم الذي يدرس، والطابق الثاني هي غرف أيضا لإقامة الطلبة.

أما الزنجيرية فبنيت في القرن الرابع عشر وهي أيضا تشبه المدرسة القاسمية، وحاليا مغلقة للترميم ولكنها مكان مهم لالتقاط الصور وخاصة للمتزوجين الذين يحبون تخليد ذكرى زفافهم، بسبب إطلالة المدرسة المرتفعة عن المدينة.

* ملتقى حضاري

ومن أبرز معالم مدينة ماردين أيضا مسجد "أولو جامع"، وهو مسجد بني في القرن الثاني عشر في فترة حكم الآرتوقيين المسلمين للمدينة، ومنارته المتميزة المرتفعة التي تظهر بشكل واضح من كافة أرجاء المدينة القديمة.

وبني المسجد على الشكل القديم في صورة مستطيل كبير، ويضم باحة بنفس الشكل ومنارة مدون عليها بـ 16 كتابة مختلفة تعبيرا عن الحقب التاريخية والحضارية التي تعاقبت عليها.

ويضم المسجد ما يعتقد أنها شعرة من لحية النبي محمد (ص)، وهو ما يجعل المسجد قبلة للزائرين والقادمين من أجل الدعاء والصلاة والتمتع بالأجواء الروحانية في المسجد.

ويعتبر الجامع مركزا للمدينة القديمة ومنه تنطلق رحلة التجول في المدينة القديمة وأزقتها وشوارعها.

وبخلاف أزقتها ومنازلها ومعالمها الحجرية التي يفوح منها عبق التاريخ، تعد مدينة ماردين التركية مثالا للعيش المشترك، بين عرقيات وثقافات مختلفة.

وتضم ماردين التي تعرف بمدينة التسامح، آثارا تعود لـ25 حضارة، بينها السومرية والأكدية والبابلية والحثية والأشورية والرومانية والعباسية والسلجوقية والعثمانية، لتصبح ملتقى حضاري وثقافي لا مثيل له بالعالم.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!