د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا

أنهى رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي زيارة رسمية سريعة قصيرة ولكن مكثفة لأنقرة سبقها التحضير المميز على المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية.

أسباب قبول الكاظمي للدعوة التي وجهتها له أنقرة لا تقل قيمة وأهمية عن توقيت الدعوة والزيارة وعن طبيعة المحادثات التي أجراها مع الأتراك.

ما الذي يبحث عنه كلا الطرفين التركي والعراقي هذه المرة؟

أين وكيف سينجح البلدان في الالتقاء حول قواسم مشتركة في منتصف الطريق؟ هذه هي المعضلة الأخرى التي تنتظر القيادات السياسية العراقية والتركية التي تكرر تمسكها بإزالة أسباب التوتر بينها.

لم تكن زيارة روتيتية بروتوكولية فهناك خلافات وتباعد في العمق يحتاج إلى المصارحة التي لا بد أن تستبق المصالحة. والمحادثات كانت حتما من أصعب لقاءات الحوار التركي العراقي حيث تراكمت ملفات الخلاف السياسي والأمني والمائي والاقتصادي. حيث دخل أكثر من لاعب على الخط للاستفادة من هذا التوتر في العلاقات أو لصب الزيت على نار التصعيد فيها رغم أن الطرفين التركي والعراقي لم يتركا مجالا كبيرا لأصابع خارجية كي تتدخل بسبب نجاحهما في إبقاء العلاقات فوق صفيح ساخن لا يبرد.

الكاظمي هو الضيف والدعوة هي تركية. وأنقرة لا بد إذا أن تكون مضيافة في إكرام الوافد والاستماع إلى ما يقول ويريد وفتح الأبواب على وسعها أمام صفحة جديدة من العلاقات التركية العراقية بعد انسداد لا يمكن تجاهله. ملفات صعبة تنتظر من يعالجها في مسائل الأمن والسياسة والاقتصاد والمياه والنفط والعلاقات بين أنقرة وأربيل هذا التقارب الذي يزعج بغداد ويقلقها.

بقدر ما ترصد أنقرة عن قرب كيف أن العراق يسترد عافيته وقوته وموقعه العربي والإقليمي، فهي ترصد حتما حجم الانفتاح والتقارب الذي بدأه البعض باتجاه العراق لمواجهة النفوذ التركي الإقليمي ومحاولة كسب بغداد في عملية الاصطفاف هذه ضد تركيا.

لا يمكن بعد الآن سوى أن تكون لغة الحوار بين أنقرة وبغداد وبعكس الكثير من المرات السابقة مختلفة ومغايرة وتشمل فتح الطريق أمام التعاون المتوازن والحقيقي وتقديم حسابات الربح والخسارة في العلاقات في إطار تحرك براغماتي، يستفيد منه كلا الطرفين.

الرغبة المعلنة منذ سنوات باتجاه التحول التدريجي الإيجابي لإزالة التوتر والاحتقان السياسي والأمني لم تؤت ثمارها حتى الآن ولا أحد في البلدين يراهن على مصالحة سريعة تنهي الخلافات. العملية الجراحية الحقيقية التي تقود إلى استئصال الأورام تحتاج إلى وقت طويل. المهم اليوم هو الإعلان عن خارطة طريق عملية ومبرمجة وواقعية تلزم الجانبين.

الظروف الإقليمية والدولية المحيطة خصوصا مع اقتراب وصول الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن وضرورة الاستعداد لما سيقوله ويفعله تحتم على أنقرة وبغداد مراجعة مسار علاقاتهما التي هي أبعد بكثير من بحث رفع مستوى التبادل التجاري بينهما من نحو 15 مليار دولار إلى 20 مليارا.

هناك عملية المخلب التي انطلقت قبل أشهر في شمال العراق ضد مواقع مجموعات حزب العمال والتي أعلنت أنقرة أنها ستستمر إلى أن تحقق أهدافها. بغداد تعترض على طريقة تنفيذ العملية ودون الرجوع إليها والتنسيق معها. الكرة ستكون كما يبدو في الملعب العراقي بعد الإنجازات العسكرية التي حققتها القوات التركية في قنديل وسنجار. ترك الأمور كاملا إلى القوات المسلحة العراقية أو التنسيق من خلال عمليات عسكرية مشتركة عند الضرورة.

الوجود العسكري التركي في العراق خصوصا في مخيم بعشيقه القريب من الموصل رفضه الكثير من القيادات السياسية في بغداد لكن أنقرة تمسكت بأسبابها للبقاء هناك رغم كل التصعيد السياسي والدبلوماسي. حان الوقت لمناقشة هذا الملف على ضوء التطورات في المشهد العراقي وفي إطار الضمانات المتبادلة التي تحمي مصالح وأمن البلدين. المتوقع إذا تعزيز حجم التنسيق العسكري والاستخباري في الحرب المعلنة على مجموعات حزب العمال وبقايا داعش.

المطلوب أيضا هو تحرك ثنائي وثلاثي بين أنقرة وبغداد وإشراك أربيل في الحوار لأن الملفات باتت متداخلة متشابكة لا يمكن فصلها عن بعضها البعض.

ملف المياه الذي ناقشه ويسأل أراوغلو الممثل الخاص للرئيس التركي إلى العراق مع القيادات السياسية في منتصف العام المنصرم يبدو أنه بدأ يقود إلى تفاهمات وخطة تحريك مشاريع مائية مشتركة تدعم تخزين واستغلال المياه في الجانب العراقي.

موضوع التأشيرات وتصدير النفط العراقي عبر الأراضي التركية والديون المستحقة والمساهمة التركية في إعادة إعمار العراق مسائل لا بد أن تحل وتحسم سريعا طالما أن الحديث يدور عن رغبة مشتركة في فتح صفحة جديدة من العلاقات.

قيادات عراقية في الحكم رددت أن الهدف اليوم هو إقامة علاقات متوازنة مع الجميع وأن تركيا هي بين أهم دوائر الدبلوماسية العراقية. أنقرة أيضا تقول إنها تضع علاقاتها مع العراق في مقدمة الملفات الاقليممية الواجب التعامل معها بإيجابية وواقعية. أنقرة وبغداد يدركان إذا أن علاقاتهما باتت تحت تأثير أكثر من ملف إقليمي وأن الخروج من الدائرة المفرغة وإنهاء تكرار المواقف والاتهامات هو مطلب الشعبين اليوم لأن مصالحهما والفرص المتاحة تفرض ذلك وعلى القيادات السياسية الاستجابة.

تحدث الدكتور حسن الجنابي السفير العراقي في تركيا عن "محاولات للإجهاز على زيارة الكاظمي إلى تركيا قبيل إجرائها". الواضح تماما أن هناك أكثر من طرف محلي واقليمي يهمه أن يفعل ذلك وله مصلحة اليوم في ضرب أي مشروع تقارب وانفتاح تركي عراقي. ما الذي يفعله وزير الخارجية اليوناني في العراق مثلا بعد عقود من تجاهل مسار العلاقات اليونانية العراقية؟ هل هو هناك لبحث سبل حماية المصالح الاقتصادية مع بغداد أم لتقديم خدمات تصب باتجاه مواجهة التمدد الاقليمي التركي؟

لفرنسا أيضا على ضوء زيارة ماكرون السريعة للعاصمة العراقية والرسائل التي وجهها من هناك رغبة في استعادة نفوذها على الساحة الشرق أوسطية، وفي القلب منها العراق ومحاولة ملء الفراغ الناتج عن الانسحاب الأميركي الجزئي من العراق لقطع الطريق على النفوذ التركي في ساحة عربية مهمة، والتمسك بدعم وتقوية حزب العمال الكردستاني وامتداداته في سوريا بالسلاح، ومحاولة عرض الخدمات على أربيل بما يقلل من اعتمادها على تركيا.

الكاظمي يأتي إلى أنقرة وهو مزود بالدعم العربي الواسع للعراق ومحصن بوقوف العديد من العواصم الغربية إلى جانب بغداد في هذه المرحلة، وهو أعلن أكثر من مرة أنه يولي أهمية خاصة لتطوير العلاقات مع دول الجوار. ويغادرها والمتحدث الرسمي باسم الخارجية العراقية أحمد الصحاف يتحدث عن تفهم واستجابات تركية للمطالب العراقية ودعمها لمقاربات كبيرة في التصور العراقي للمشهد الاقليمي. الصحاف كان في مطلع تموز المنصرم يردد أنه لدى العراق خيارات كثيرة للتعامل مع الاستفزازات التركية في شمال العراق.

قبل أن يعود الكاظمي إلى بلاده بدأت أصوات عراقية معارضة تطالب بالكشف عما فعله في أنقرة وتعلن أن الإنجاز الوحيد الذي حققه لا يمكن أن يكون في توقيع اتفاقيات ضريبية أو ثقافية، في حين أن هناك ملفات كثيرة ساخنة تنتظر بعضها الآخر يذكرنا أنه ليس مخولا ببحث مسائل أساسية لأن عمر حكومته قصير ومرتبط بتفاهمات سياسية داخلية تسهل توجه البلاد نحو الانتخابات. كلمات التقدير والإعجاب التي كتبها الكاظمي في دفتر كبار الزوار إلى ضريح مؤسس تركيا الحديثة أتاتورك بخط يده قد تغضب البعض في العراق أيضا. كل هذا تتابعه القيادة السياسية التركية عن قرب ومن المفترض أنها وهي توجه الدعوة للكاظمي وتقرر استضافته وسط كل هذه الظروف الصعبة في مسار العلاقات بين البلدين أعدت الكثير من المفاجات باتجاه فتح الصفحة الجديدة.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس