ترك برس

أحيت تونس، السبت، اليوم الوطني لإلغاء العبودية والرق، المتزامن مع 23 يناير/كانون الثاني من كل عام، وهي ذكرى تعود لـ175 عاما، عندما قرر أحمد باشا باي الأول (حاكم تونس آنذاك) إلغاء الرق بالبلاد.

مثلما كانت تونس سباقة في إشعال الشرارة الأولى لثورات الربيع العربي قبل عشر سنوات (مطلع 2011)، كانت سباقة أيضا قبل 175 عاما، في الإعلان عن إلغاء العبودية والرق.

وذكر التقرير أن تونس تعد من أوائل البلدان في العالم التي قررت إبطال العبودية والاتجار بالبشر، والأولى التي تصدر وثيقة رسمية في هذا الخصوص. وأصدر البريد التونسي، السبت، طابعا بريديا بمناسبة إقرار يوم 23 يناير، يوما وطنيا لإلغاء الرق والعبودية.

وفي 2018، تسلمت تونس الوثائق الرسمية الخاصة بتسجيل تجربتها في إلغاء العبودية بـ"ذاكرة العالم" من طرف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونيسكو). حسب تقرير موسع لوكالة الأناضول التركية.

- الأولى في العالم

في 23 يناير 1846، أقر أحمد باشا باي إلغاء الرق والعبودية بالبلاد، لتكون تونس أول دولة في العالم تلغي العبودية والرق بوثيقة رسمية. حسب الأناضول.

يذكر أن أحمد باشا حكم في الفترة بين 1837 و1855، وهو عاشر البايات الحسينيين بتونس، وهم سلالة حكموا إيالة تونس العثمانية منذ 1705، ثم استقلوا بالبلاد. وفق موقع "الجزيرة نت".

وبهذا القرار، سبقت تونس الولايات المتحدة التي كانت تشهد نزاعات أهلية بين ولايات الشمال بقيادة الرئيس أبراهام لينكولن، وولايات الجنوب، بقيادة جيفرسون ديفيس، المعارضة لحملة لينكولن الساعية إلى تحرير "العبيد''.

وقبل إلغاء الرق وعتق العبيد، أصدر أحمد باي الأول في 6 سبتمبر/أيلول 1841، أمرا يقضي بمنع الاتجار في الرقيق وبيعهم في أسواق البلاد، كما أمر بهدم الدكاكين الخاصة بالعبيد.

وفي ديسمبر/كانون الأول 1842، أصدر أحمد باي أمرا يعتبر من يولد على التراب التونسي حرا ولا يباع ولا يشترى، ثم أصدر أمرا يقضي بعتق جميع العبيد في البلاد وإبطال العبودية نهائيا في 23 يناير 1846.

- قرار تقدمي

ويعتبر مؤرخون، قرار إلغاء العبودية، من أهم وثائق الأرشيف التونسي وأحد أبرز الإصلاحات الاجتماعية التي كرست ريادة تونس على الصعيدين العربي والإسلامي من حيث تبني قيم الحداثة.

كما يرى هؤلاء أنه قرار تقدمي رائد مقارنة بعصره، ففرنسا مثلا لم تلغ العبودية إلا عام 1848، في حين أن الولايات المتحدة ألغتها عام 1865.

وفي السياق، يقول المؤرخ والإصلاحي التونسي أحمد ابن أبي الضياف (1802- 1874)، في كتابه "إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان"، إن "هذا القرار (إلغاء العبودية) لقي صدى كبيرا لدى أمم الحرية وأساسا في إنجلترا".

ويعود اقتناع أحمد باشا باي بضرورة إلغاء العبودية، أولا إلى "ميله للحضارة التي أساسها الحرية"، وثانيا لأنه لم يكن يمارسها (العبودية) في بلاطه، وثالثا لتأثّره بالحملة التي تزعمتها بريطانيا منذ عام 1839 لإلغاء الرق، وفق ما ورد في ذات الكتاب.

ويُشير المؤرخون إلى أن أحمد باي اختار التدرج في إلغاء العبودية، ففي عام 1941 أصدر أمرا بمنع بيع العبيد في كل أسواق البلاد، وألغى الأداء الذي كان موظفا على هذه التجارة، وفي 1842 أقر الحرية لأبناء العبيد المولودين بالبلاد.

وجاء في نص القرار الذي تحتفظ وزارة العدل التونسية بنسخة من أوامره: "ثبت عندنا ثبوتا لا ريب فيه أن غالب أهل أيالتنا في هذا العصر لا يحسن ملكية هولاء السودان الذين لا يقدرون علي شيء، على ما في أصل صحة ملكهم من الكلام بين العلماء، إذ لم يثبت وجهه، وقد أشرق بنظرهم صبح الإيمان منذ أزمان، وأن من يملك أخاه على المنهج الشرعي الذي أوصى به سيد المرسلين آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة حتى إن من شريعته التي أتى بها رحمة للعالمين عتق العبد على سيده بالإضرار، وتشوف الشارع إلى الحرية، فاقتضى نظرنا والحالة هذه رفقا بأولئك المساكين في دنياهم وبمالكيهم في أخراهم أن نمنع الناس من هذا المباح المختلف فيه والحالة هذه، خشية وقوعهم في المحرّم المحقق المجمع عليه، وصد إضرارهم بإخوانهم الذين جعلهم الله تحت أيديهم، وعندنا في ذلك مصلحة سياسية منها عدم إلجائهم إلى حرم ولاة غير ملتهم، فعيّنا عدولا بسيدي محرز وسيدي منصور والزاوية البكرية يكتبون لكل من أتى مستجيرا حجة في حكمنا له بالعتق على سيده وترفع إلينا لنختمها".

وصدر أمر علي بتاريخ 29 مايو/أيار 1890 ينص على جمع الأحكام المتعلقة بإبطال العبودية بالمملكة التونسية، وجاء فيه:

"وبعد، فلا يخفى أن المقدّس المنعم ابن عمّنا سيدي أحمد باشا باي أصدر أمره المؤرّخ في 25 محرّم الحرام سنة 1262هـ (23 يناير/كانون الثاني 1846) بإبطال العبودية من المملكة مراعاة لما تهم مراعاته من المصالح الدينية والإنسانية والسياسية، وأنه ومن خلفه من أسلافنا المقدّسين حكموا بإبطال الأسواق التي كان يقع فيها بيع العبيد، وعتق كلّ من يفد للملكة على حالة الملكيّة وأصدروا الإذن للعمّال أن ينهوا إلى الوزارة ما يبلغهم من المخالفات المتعلّقة بالملكيّة وحذّروهم من طائلة التّغافل".

- إلغاء الرق بتونس العثمانية

وفي كتابه "إلغاء الرق في تونس العثمانية" الصادر عام 2013 عن مطبعة جامعة فلوريدا الأميركية، أكد الأكاديمي إسماعيل مونتانا أن تونس كانت أول من ألغى مؤسسة العبودية القديمة في العالم الإسلامي.

وجمع الكتاب العديد من البيانات الأرشيفية التونسية والأوروبية والوثائق القانونية العربية لتوثيق إلغاء العبودية في تونس، معتبرا أن الحكام التونسيين استجابوا ببراغماتية للتدخل الأوروبي الاقتصادي والسياسي المتزايد في شمال أفريقيا سعيا منهم لحماية استقلال البلاد، وحرروا المستعبدين السود.

ويتعرض الكتاب للصراعات الداخلية التي دارت حول قرار إلغاء العبودية في تونس، ويعتقد أن قرار الباي لم يكن مدعوما بشكل كبير من السكان في البداية، لكن الحاكم تبنى إلغاء الرق كإجراء إصلاحي تقدمي لحماية سلامة وسيادة بلاده وتجنب مبررات التدخل الأجنبي.

ويستعرض مونتانا، أستاذ التاريخ بجامعة نورث إلينوي، تعقيدات المجتمع والثقافة التونسيين، ويكشف كيف ساعدت الرأسمالية الأوروبية والضغط السياسي (لا سيما البريطاني) والديناميكيات الاجتماعية المتطورة في جميع أنحاء منطقة غرب البحر الأبيض المتوسط ​​في تشكيل سياسات إلغاء العبودية.

ويدرس الكتاب أثر قرار الباي التونسي على تجارة الرقيق التي ازدهرت وتجذرت في شمال أفريقيا وعبر المحيط الأطلسي، معتبرا أن الخطوة الجريئة أطلقت العديد من النقاشات بين العلماء والمجتمعات الإسلامية بالنظر لتراث إسلامي غني يشجع على إعتاق العبيد، وآليات تمكين العبيد من تحرير أنفسهم، وتشجيع اندماج المحررين منهم في المجتمع، متناولا كيف استدل الباي بنصوص من الشريعة الإسلامية لتشريع إلغاء العبودية.

من جانبها حظرت الحكومة المركزية العثمانية في وقت لاحق تهريب المستعبدين الأفارقة إلى الإمبراطورية (1857)، ومع ذلك تمت قراءة الدعوات الأوروبية (والبريطانية خاصة) لإلغاء الرق وقمع تجارة الرقيق على أنها محاولة استعمارية أخرى لتنظيم الممارسات الاجتماعية والقيم الثقافية.

وجاء قرار الباي متأثرا كذلك بمعرفته بالفظائع والمعاناة التي لحقت بالضحايا الذين يتم نقلهم عبر الصحراء إلى تونس، وكان للباي، وهو من أصول انكشارية، خبرة حميمة مع العبودية، إذ كانت والدته أمة (جارية إيطالية) تم استرقاقها من جزيرة سردينيا المتوسطية قرابة عام 1798.

وخلال فترة حكمه، قام بعدد من مشاريع التحديث الطموحة مثل إنشاء جيش المشاة النظامي (نظام جديد) على غرار أحدث المؤسسات العسكرية الأوروبية والعثمانية، ورأى أن تجارة الرقيق والعبودية غير أخلاقية ومتناقضة مع العدل وروح التاريخ، وكان حافظا للقرآن ومتقنا للغتين التركية والإيطالية.

ومع ذلك لم يتغير المجتمع التونسي جذريا على إثر قرارات الباي، إذ لم تكن العبودية شائعة في الغالب سوى لدى الأعيان ورجال البلاط، وفي المقابل تسببت إصلاحاته ومشروعاته الكبرى -مثل بناء مصنع البارود والمكتبة الأحمدية وإنشاء قوة بحرية متطورة- في إرهاق خزينة البلاد، وابتداء من سنة 1869 تدخلت الدول الأوروبية مباشرة في شؤون الخزينة التونسية، وابتداءً من 1881 وبموجب معاهدة باردو أصبحت تونس تحت الحماية الفرنسية.

وينتقد كتاب مونتانا الباحث الفرنسي روبرت برونشفيج الذي اعتبر أن تونس ألغت العبودية نتيجة الضغط الأوروبي المباشر، مقدما تفسيرات بديلة للإلغاء في إطار مخططات التحديث والتغريب مثل تلك التي بدأها محمد علي في مصر وإصلاحات التنظيم العثماني، ومؤكدا أن القوة الرئيسية التي شجعت على الإلغاء كانت الحاكم التونسي نفسه.

وفي الفصل الثالث من الكتاب يناقش المؤلف تجارة الرقيق، كما هي الحال مع القطاعات الأخرى، مبينا أنها تأثرت بالإصلاحات الاقتصادية للعائلة الحسينية الحاكمة، والرغبة في زيادة رأس المال عبر توسيع التجارة الأوروبية.

ويتعرض للسياق الإقليمي لقرار الباي، فبعد الحروب النابليونية شهدت السنوات 1815-1841 تزايدا للهيمنة البحرية البريطانية على البحر الأبيض المتوسط ​، والاحتلال الفرنسي للجزائر، والمناورات العثمانية لمواجهة هذه التدخلات العسكرية، وخلال هذه الفترة، اقترض البايات التونسيون بكثافة من التجار الأوروبيين، وأدى ذلك للتدخل الأوروبي الحثيث في السياسة والاقتصاد في تونس.

ويلقي كتاب آخر صدر مؤخرا لأستاذ التاريخ بجامعة برينستون محمد والدي بعنوان "عبد بين الإمبراطوريات.. تاريخ شمال أفريقيا العابر للإمبراطوريات" عن مطبعة جامعة كولومبيا، الضوء على سيرة حياة "الجنرال حسين" الذي كان عبدا متعلما تعود أصوله إلى القوقاز وبلاد الشركس، قبل أن يُباع في الإمبراطورية العثمانية ويترقي في المناصب حتى ينال رتبة الجنرال العسكرية.

يروي الكتاب قصة النزاع على ثروة الجنرال بعد وفاته، ليحلل من خلالها الأبعاد "فوق الوطنية" لتاريخ شمال أفريقيا. ويضع المؤلف الجنرال حسين -الذي تنقل بين ضفتي المتوسط بين تونس زمن العثمانيين وفلورنسا الإيطالية- في السياق الدولي للصراع بين القوات العثمانية والفرنسية من أجل السيطرة على البحر المتوسط، ويشرح كيف أثر هذا الصراع اجتماعيا وثقافيا على السكان.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!