شمس محمود - خاص ترك برس

فى الرابع عشر من مايو عام 2018 كتبت تحت عنوان :  الجزيرة والإخوان.. وأزمة المصالحة ما يلي:

...الجزيرة شأنها شأن أي مؤسسة إعلامية شبه مستقلة، لها سياسة ترتبط بالممول صعودًا وانخفاضًا، والتي بدورها تقبل الضغوط والشروط من الممول، وأنها أحيانًا تكون أداة للهجوم أو الدفاع بحسب رغبة الممول، وجديد سياساته، وأنها أحيانًا تقفز على المبادئ دون أن تدهسها أو تهينها علانية.

دون إغفال لدورها المهم والمستمر في تثقيف الأمة وتوعية الشعوب العربية ومساندة المظلوم بحسب القدرة على تحمل الضغوط التي تمارس على منشئيها في هذا الصدد، وأنها ما تزال لليوم الملجأ الأول، والمهم عند تغطية الخبر والتأكد من صحته، والمؤثرة إقليميًا وعالميًا.

وأن الحيادية في ظل منافسة لا حياد فيها ضرب من الخيال والخبل، لكن التلاعب بالمبادئ مضر ومهلك كذلك. وربما تكون أخوات الجزيرة الصغرى التي أنشئت حديثًا متنفسًا ذكيًا وواعيًا عند الضغط على الشقيقة الكبرى. 

والناظر اليوم إلى علاقات الدول كافة يجدها قائمة على المصالح والبراغماتية، تلك التي تخف او تزيد بحسب الخصم والمبدأ والعائد.

وإذا كانت دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية بكل ما لديها من قوة عسكرية واقتصادية وإعلامية مؤثرة تضطرها المصالح والمنافع والخطط المستقبيلة إلى التغاضي عن بعض مبادئها وخطوطها العريضة حفاظا على مصالحها، فتكتفي بحرب التصريحات والإدانات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، فى الوقت الذي تبرم فيه اتفاقات أمنية واقتصادية كبيرة مع ذات الدول التي تنتقدها في العلن امام الكاميرات، فكيف بدولة مثل تركيا ؟!

وإذا كان النظام المصري بكل تطرفه، وبالرغم من هجماته الإعلامية ضد تركيا مع حلف – السعودية الإمارات - التي غابت فيها أدنى درجات المهنية، كان حريصا للغاية على علاقات إقتصادية قوية مع تركيا، كي يبقي على أحد مصادر دخله التي بها ينفق على المؤسسات المسانده له فى الداخل، ويلمع صورته فى الخارج، عن طريق وسطاء يدفع لهم ملايين الدولارات شهريا رغم أزمات اقتصاده الداخلي !!

ولكن هل كل البرغماتيات تتشابه؟!

إن اوجه التشابه فى المسألة البرغماتية هو العملية ورؤية المكاسب والخسائر القادمة من وراء هذا المبدأ أو تلك العقيدة؛ فإذا وَجَدت حكومة ما – تعادي الدين – أن حركة أو تيارا دينيا قويا يجتاح الجماهير يهددها بقوة أو يهدد مصالحها أظهرت تعاطفا ملحوظا مع الدين والعقيدة، وسنت بعض القوانين التي ترضي ذلك التيار حتى تدرس كيفية تقويضه أو القضاء عليه.

لكن الخلاف الجوهري بين برغماتي وآخر هو أن احدهم يؤمن بالبرغماتية مبدأ أصليا– فحليفه على الدوام المصلحة ولو باع لأجلها دينه وعرضه – والثاني يتخذها غرضا، يلجأ إليها حينما تجبره الظروف والمستجدات على تغيير خططه من أجل الحفاظ على أساسي عنده.

فالأول برغماتيته أسلوب حياة يغير لأجلها جلده ودينه ، والثاني برغماتيته محدودة لأن لديه مبادئ عليا أو عقيدة سامية أكبر من البرغماتية أو متطلبات البرغماتية. 

والظاهر من تاريخ ومواقف حزب العدالة والتنمية التركي وزعيمه رجب طيب أردوغان أنهم ينتمون للفريق الثاني لا الأول.

فالبراغماتية السياسية – بمفهوم الفريق الأول - كانت لتجبر الحزب ورئيس الدولة التركية على الإكتفاء بإدانة الإنقلاب في مصر واستقبال جزء من المعارضة على أراضيها دون تصعيد لغة العداء ضد النظام المصري ، لأن المكاسب السياسية والإقتصادية التي ستجنيها تركيا من خلف نظام مثل النظام المصري أكبر بكثير من ارضاء مجموعة من المعارضين لاوزن لهم أو تأثير يذكر على الساحة الداخلية أو الخارجية يجعلهم ورقة ضغط قوية تماثل أو تفوق تلك المكاسب التي ستخسرها تركيا لا محالة من جراء موقفها الحاد من النظام المصري.

وكذلك البراغماتية كانت لتميل إلى جانب السعودية والإمارات وباقي دول الحصار على أن تميل نحو قطر فى الأزمة الخليجية الأخيرة، والتي كانت ستحصل تركيا من خلالها على أضعاف ما حصلت عليه من قطر، وقد قال جيسون توفي الخبير الاقتصادي البارز لدى " كابيتال إيكونوميكس " وفقا لتقرير أعدته رويترز معلقا على الإستثمارات القطرية الجديدة داخل تركيا بعد أزمة الحصار الخليجي لها : العشرة مليارات دولار الإضافية هي قطرة في محيط مقارنة باحتياجات تركيا من " التمويل الخارجي" لاسيما بالنظر إلى أن الضرر الكبير للسياحة والتجارة زاد عجز المعاملات الجارية.

 لكن السياسية التركية الجديدة تحاول تأسيس علاقات قوية مع حلفاء حقيقيون ، من أجل الإعتماد عليهم فى حربها الحقيقية ضد البرغماتية الرأسمالية وتنفيس الضغوط التي تمارس على أنقرة إقليميا وعالميا، مع تأمين حدودها من التلاعب الدولي وامتلاك ادوات ضغط ضد أنقرة على الحدود؛ وهو الأمر الذي جعلها تسعى بجد نحو حلف يضم كلا من إيران وماليزيا وقطر وباكستان وأندونيسيا، ومساندة اللأذريين فى حربهم الأخيرة ضد أرمينيا، والوقوف داخل الحدود العراقية السورية، وإرسال فرقاطات بحرية مع السفينة عروج ريس في شرق المتوسط، وإبرام إتفاقات فى المجاليين الأمني والبحري في ليبيا مع حكومة الوفاق الشرعية  .

والبرغماتية كانت لتميل إلى التهدءة مع ولي العهد السعودي عندما أبدى انفتاحا وتوددا نحاية الأتراك – بعد أزمة إغتيال جمال خاشقجي – لكن العكس هو ما حصل؛ وكذا البرغماتية كانت لتميل إلى صالح إسرائيل فى مسألة القدس وإلى النظام في مسألة الثورة السورية – على تفصيل ليس هذا أوانه يخص المسألة السورية ومكاسب الأتراك فيها - .

والسؤال هنا: ما الذي يجبر حزب مثل العدالة والتنمية أو رئيس مثل رجب أردوغان على اللجوء إلى البرغماتية؟

ربما لو نظرت جيدا سترى أن مواعيد الإنتخابات، والوضع الداخلي، واستطلاعات الرأي التي تأتي بها الإستخبارات، تخبر أي نظام عاقل على ضرورة تغيير خططه أو الإستمرار عليها، وتخبره بمدى نجاعة خطته أو فشلها، وتخبره بمدى تأثيرها السلبي أو الإجابي على الشعب الذي سيعطي صوته فى صندوق الإنتخابات – هذا بالطبع فى الدول التي تجرى فيها إنتخابات، أو يكون لصوت المواطن تأثير على السياسة – 

والناظر جيدا فى الشأن التركي يعي أن المكاسب التي حققها حزب العدالة والتنمية داخليا وخارجيا، والمشاريع التي تسعى تركيا الجديدة إلى المضي فيها، تجبر الحزب والرئيس على التهدءة وتقديم بعض التنازلات بدلا من فقدان كل شيئ!

فتجربة أردوغان ليست كباقي التجارب الحزبية السابقة وعلى رأسها تجربة نجم الدين أربكان؛ وشخصية أردوغان اليوم ربما تنافس بقوة شخصية مصطفى كمال اتاتورك من حيث الحضور الجماهيري والشعبية الكبيرة التي لم ينلها أيا ممن سبقوه.

لماذا الأن؟

تحركت تركيا خارجيا بقوة بعد فترة "صفر مشاكل " خصوصا مع موجات "الربيع العربي" ، وأظهرت للجميع قدرتها على الحسم أو القدرة على تغيير الحسابات الدولية والإقليمية ومناطحة الكبار بقوة على الأرض والميدان، وليس فقط بالتصريحات أو التحرك السياسي " خصوصا بعد فشل " الإنقلاب العسكري" الأخير ضدها، ذلك الذي دعمته الولايات المتحدة وبعض الدول العربية والأوروبية بالمال والإعلام!

وحققت تركيا مكاسب كبيرة ضد حزب العمال الكردستاني ومشروعه وداعميه الدوليين من دخولها الأراضي السورية، وكذا حققت مكاسب ضد مصر واليونان المدعومتان أوربيا بعد مساندة حكومة الوفاق فى ليبيا؛ واستطاعت تأمين حدودها بشكل معقول مع العراق وسوريا وإيران، وأبرزت شيئ من الندية "الحقيقية" ضد الروس والأمريكان في عدة مواقف؛ لكن كل هذه المواقف التي أُجبرت تركيا على الدخول فيها دفعة واحدة – وفقا لبرغماتيتها المحدودة – أثرت ولا شك على الإقتصاد التركي، ولهذا تحاول تركيا تخفيف الضغط عن نفسها لتتمكن من الإستمرار، لنها صارت اليوم قادرة على إمتلاك وتنفيذ سياسة " العصا والجزرة" إقليميا ودوليا .

والناخب التركي – الذي يعول عليه الحزب والرئيس- فى استمرار عجلة التغيير لا يصوت بناء على إنتماءه الأيدلوجي فقط؛ فبعض الأتراك المنتمين للتيار الإسلامي أو التيار العلماني يصوتون لأردوغان ليس حبا فيه أو في حزبه بل لأن نسبة الحرية في عهدهم كانت أكبر بكثير من العهود الكمالية. وبعض الأتراك الذين يخالفون أيدلوجية الطيب أردوغان يجبرون على التصويت له لأن الطفرات الإقتصادية التي حققها وانتفوعوا من ورائها أكبر بكثير من مراهنة غير محمودة العواقب على خصومه الذين يجدون أنفسهم في حرج شديد منذ تسعة عشر سنة تقريبا؛ والخطوات العسكرية التي اتخذها الحزب فى السنوات الأخيرة تساند هذا التوجه الجديد والشعبية المرجوة ، لكن كل شيئ لابد أن يكون بقدر وإلا فقدت تلك الدراجة التي انطلقت فى سباق طويل منذ تسعة عشر سنة تروس الدفع والحركة.

لذا كان التقارب المصري التركي الأخير نتيجة لضغوط كبيرة تمارس على كلا من مصر وتركيا، أجبرت كلا الطرفين على النظر إلى مصالحهما فبدأت بالمصالحة الليبية وظهرت جلية فى مسألة شرق المتوسط.

فمصر اليوم تجد نفسها منبوذة وتستغل حتى من أقرب حلفائها مثلما فعلت اسرائيل واليونان فى اتفاقية استثنيت القاهرة منها؛ كذلك ما فعلته كلا من السعودية والإمارات مع مصر فى الأشهر الأخيرة، وكذا الأزمات الأخيرة مثل أزمة سد النهضة التي تمثل خطرا حقيقيا على النظام المصري لأن الشعب على وشك الإنفجار فلا ينقصه عطش جديد يضاف إلى ذلك العطش الإقتصادي والسياسي والسيادي الذي يعيشون فيه منذ صعود نجوم الإنقلاب العسكري "الجديد" واستكمال خيبات أصحاب الإنقلاب " القديم"  حتى يثوروا ولو بالعصي والحجارة !!

ورغبة تركيا في تجديد دمائها الإقتصادية تلك التي تساعدها فى دعم قراراتها العسكرية والمشاريع التنموية ودعم الإقتصاد وطمئنة الناخب التركي، تجبرها على تخفيف لهجتها الخارجية اقليميا ودوليا، ومحاولة التوصل إلى اتفاقات جديدة اقليمية ودولية تكون لتركيا فيها امتيارات وصوت مسموع بعدما أثبتت لحلفائها وأعدائها أنها عدو قوي لمن يعاديها، وحليف قوي أمين للذين وثقوا فى حلفها وشراكتها .

لكن التباين الكبير بين الموقف التركي والموقف المصري، ورغبة النظام المصري فى " الإنتقام " من أنقرة ورغبة أنقرة فى " تأديب " النظام المصري تجعل علاقتيهما متوترة على الدوام ومرهونة بالداعم الخارجي لمصر والوضع الإقتصادي لتركيا؛ وتجعل ما يحدث الأن هو مجرد تقارب مصلحي وليست مصالحة؛ أو مصالحة على طريقة " المصالحة الخليجية " ، تلك التي لا يأمن فيها أي طرف الطرف الآخر، خصوصا بعد تلك الموجات العدائية التي كادت أن تُتَمَّم بغزو عسكري لقطر وإنقلاب عسكري ضد الطيب أردوغان وحزبه.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس