سعيد الحاج - TRT عربي 

على مدى الأيام القليلة الماضية، كان اهتمام الأوساط الإعلامية والسياسية التركية مركَّزاً بشكل شبه حصري على قمة الرئيسين التركي والأمريكي في بروكسل على هامش قمة الناتو، إذ أتت في ظل علاقات فاترة بين الجانبين وإشارات سلبية من إدارة بايدن تجاه أنقرة.

ذلك أنه إضافة إلى المسار المتذبذب في العلاقات الثنائية في السنوات الأخيرة، فقد صدر عن واشنطن إشارات سلبية متواترة تجاه أردوغان و/أو تركيا، بما في ذلك دعوة بايدن لإسقاط أردوغان ودعم المعارضة خلال حملته الانتخابية، والتأخير الكبير في التواصل معه هاتفياً بعد تنصيبه رئيساً، واستخدام مصطلح "الإبادة الجماعية" لتوصيف أحداث 1915 خلال الحرب العالمية الأولى، واستثناء تركيا من جولة بلينكن في المنطقة بعد العدوان الأخير على غزة، وتأكيد إخراج تركيا من مشروع مقاتلات F-35، واستمرار التلويح بالعقوبات.

كما أن البلدين يمتلكان رؤى مختلفة وأحياناً متناقضة في ملفات عديدة، في مقدمتها سوريا حيث تدعم واشنطن مليشيات انفصالية ومصنَّفة على قوائم الإرهاب في تركيا بدعوى مكافحة "داعش"، والتقارب التركي مع روسيا، ومنظومة S-400، وعدم تعاون الولايات المتحدة مع تركيا في ملف التنظيم الموازي (جماعة كولن)، وقضية شرق المتوسط، وغيرها من الملفات.

لذلك كله، كان ثمة تخوفات بأن ينتهي اللقاء بين بايدن وأردوغان بأزمة توتر جديدة بين الجانبين، بينما كان الأخير قد أبدى تفاؤله بأن يكون اللقاء مؤشراً على مرحلة جديدة بينهما. بعد اللقاء قال أردوغان إنه تحدث مع نظيره الأمريكي حول علاقات البلدين مؤكداً أنه "ليس هناك مسائل لا يمكن حلها" بينهما. في المقابل، وصف بايدن المحادثات مع الأخير بأنها "إيجابية وبناءة"، فضلاً عن الابتسامات المتبادلة التي وسمت اللقاء بينهما.

بذلك يمكن القول إن الجانبين قد تجاوزا الحاجز بينهما وأذابا جليد العلاقات، وتجنبا بالتأكيد أزمة إضافية. كما أن اتفاقهما على مواصلة الحوار على مستوى لجان من المختصين من الجانبين تناغم مع المطالب التركية في الفترة الأخيرة، وكذلك مع رؤية بايدن لمأسسة علاقات وسياسات بلاده الخارجية.

لكن ذلك لا يعني أن البلدين قد تخطيا فجوة الثقة بينهما بشكل نهائي، فما زالت الملفات العالقة على حالها وكذلك التباعد في وجهات النظر، لكن ليس على قاعدة القطيعة والصدام.

لقاء أردوغان ببايدن كان العنوان الأبرز وليس الوحيد تركياً في قمة الناتو. فقد جمعته لقاءات ثنائية بعدد كبير من القادة المشاركين في القمة، وفي مقدمتهم المستشارة الألمانية ميركل والرئيس الفرنسي ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني جونسون ورئيس الوزراء اليوناني ماتشوتاكيس، في لقاءات هي الأكثر زخماً منذ سنين طويلة.

رسائل أردوغان خلال القمة وبعدها أكدت محورية دور تركيا في حلف الناتو، والتزامها بأمن التحالف واضطلاعها بالمسؤوليات الملقاة على عاتقها في إطاره، سابقاً وحالياً ومستقبلاً. وقد أكد الرئيس التركي مساهمة بلاده الفاعلة والعملية في نقاشات الناتو الحالية مثل إدارة مطار كابل في أفغانستان، والمستقبلية مثل رؤية الناتو 2030.

تستمد هذه الرسائل أهميتها من الأرضية المتوترة التي سارت عليها في السنوات الأخيرة علاقات تركيا مع حلفائها الغربيين، الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، مقابل تقاربها السريع والكبير مع روسيا، خصم الناتو التقليدي. وهو مسار أثار علامات استفهام لدى الغرب حول بوصلة أنقرة تحت عناوين مثل "التوجه نحو الشرق".

بيد أن تركيا، ومنذ بداية العام الحالي، تعمل على ترميم هذه الصورة بشكل ملموس، على صعيد الخطاب والسياسات. فقد تراجعت بوضوح حدة التوتر مع اليونان بخصوص شرق المتوسط، مع احتفاظ كل طرف بسرديته ومطالبه، لصالح اللقاءات الحوارية الاستطلاعية وتبادل الزيارات الدبلوماسية بينهما.

كما هدأت حدة خطاب أنقرة تجاه الاتحاد الأوروبي، وقال أردوغان تصريحه الأشهر بهذا الصدد بـ"أننا نرى أنفسنا في أوروبا، ونريد أن نصنع مستقبلنا معها"، وهو أمر ساهم في تحول لغة بروكسل تجاهها من العقوبات والضغوط إلى الحوار والتعاون.

وفي التوتر الأخير بين روسيا وأوكرانيا، جددت تركيا موقفها الداعم لوحدة الأراضي الأوكرانية ورفض إلحاق روسيا لشبه جزيرة القرم، وهو الموقف الموحَّد والمشترك للناتو والاتحاد الأوروبي.

وفي إشارة إضافية إلى المرحلة الجديدة التي بدأتها تركيا، تستضيف الأخيرة بعد قمة الناتو، وخلال الأسبوع الحالي، فعاليتين دوليتين إحداهما مؤتمر يشارك فيه صناع القرار في عدد كبير من دول العالم تحت عنوان "الدبلوماسية المتجددة: عهد جديد، مقاربات جديدة".

هذه الرسائل المتكررة، التي لا تخفى دلالاتها، أثارت انزعاج موسكو في ما يبدو، فصدرت عنها ردات فعل تجاه أنقرة مؤخراً، مثل وقف الرحلات الجوية والسياحية إلى تركيا بذريعة جائحة كورونا، وتسخين الأوضاع مجدداً في الشمال السوري وربما في ليبيا أيضاً في المستقبل القريب.

وفي الخلاصة، لم تكن تركيا في حالة تحالف استراتيجي مع روسيا خلال السنوات القليلة الماضية، لكنها تقاربت معها كثيراً بفعل عاملين رئيسيين، سعيها نحو سياسة خارجية أكثر تعدداً وتوازناً من ذي قبل، وتجاهل حلفائها التقليديين في الغرب لمصالحها وأمنها.

لكنها اليوم تعيد التأكيد أن تقاربها مع روسيا تكتيكي لا يهدم انتماءها الاستراتيجي إلى حلف الناتو ولا يتناقض معه بالضرورة.

ففي النهاية لا تبدي أنقرة حالياً رغبة واضحة في الابتعاد عن الحلف، وعلى الأغلب لا تمتلك أدوات ذلك. فدول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة هم أكبر الشركاء التجاريين لها، وتربطها معهم عقود من التحالفات والمؤسسات والمهمات والمصالح، ما يعني أن الانفكاك عن هذه المنظومة، بفرض الرغبة بذلك، ليس بالأمر السهل ولا القريب.

وعليه، فإن التحركات الدبلوماسية الأخيرة لأنقرة والرسائل المتضمَّنة في خطاب أردوغان تؤكد أنها تفتتح مرحلة جديدة في علاقاتها الخارجية أكثر هدوءاً وتقارباً مع الغرب وخصوصاً الناتو، وعلى مسافة من روسيا وإن لم يكن على أساس الخلاف والصدام معها. وهي عودة من تركيا إلى سياسة خارجية متعددة المحاور والأبعاد، لكن هذه المرة أكثر قرباً من المحور الغربي، وهو أمر قد يكون له بعض الارتدادات على صعيد العلاقات مع روسيا، خصوصاً في سوريا وليبيا.

 

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس