د. علي حسين باكير - TRT عربي

أعلنت كل من أذربيجان وتركيا يوم الثلاثاء الماضي التوقيع على "إعلان شوشة"، وهو بمثابة خريطة طريق لتعزيز التحالف الاستراتيجي بين البلدين، والتمهيد لآفاق جديدة من التعاون طويل الأمد بينهما مستقبلاً في عدد من المجالات الحسّاسة.

وقّع الإعلان كل من رئيس جمهورية أذربيجان حيدر علييف ورئيس جمهورية تركيا رجب طيب أردوغان، وذلك خلال الزيارة الأولى من نوعها للرئيس التركي إلى مدينة شوشة في إقليم قره باغ. وتعتبر هذه المدينة التي تمّ تحريرها من الاحتلال الأرميني خلال معركة الأسابيع الستة التي جرت نهاية العام الماضي 2020، العاصمة الثقافية لإقليم قره باغ .

وترتبط شوشا ارتباطاً عميقاً بالتاريخ والثقافة والفكر الأذربيجاني، وهي بمثابة ذاكرة أذربيجان. ولهذا السبب بالتحديد فقد تمّ استهدافها بشكل مباشر من قبل أرمينيا عند احتلال الإقليم قبل نحو 30 عاماً، حيث حاولت يريفان تغيير معالمها وتدمير آثارها، وقامت بعملية تغيير ديمغرافي واسعة لها على أمل أن يقطع ذلك أي صلة للأذربيجانيين بها، ويسهّل عملية قضمها مع باقي الأراضي التي تمّ احتلالها حينها.

وفي هذا السياق، جاء "إعلان شوشة" ليعيد للمدينة مكانتها واعتبارها، ويؤرّخ لعملية التحرير التي جرت، ويرسم التصورات والرؤى المستقبلية للعلاقات الأذربيجانيّة التركيّة في المرحلة المقبلة.

لقد تمّ إعطاء الإعلان عمقاً تاريخياً من خلال الإشارة الى معاهدة قارس التي عُقدت قبل مئة عام، وتمّ خلالها ترسيم الحدود التي تفصل تركيا عن أذربيجان وأرمينيا وجورجيا، علاوةً على الإشارة إلى الاحتلال الأرميني ومعركة التحرير التي جرت بدعم تركي نهاية العام الماضي.

ويتناول الإعلان بشكل أساسي أهميّة التنسيق الدوري في المجال السياسي وفي السياسة الخارجية، والعمل ضمن مجلس التعاون الاستراتيجي الأعلى، والتعبير عن التضامن والدعم المستمر في المنصّات الإقليمية والدولية.

لكن النقطة الأكثر أهمية هي استعداد الطرفين لتقديم الدعم العسكري اللازم في حال تعرّض أي منهما لأي اعتداء خارجي أو تهديد لوحدة وسلامة وسيادة أراضيهما من قبل دولة ثالثة.

هذه النقطة بالتحديد تتيح لتركيا توسيع لائحة تحالفاتها الدفاعية ورقعة عملياتها العسكرية مستقبلاً لكي تتمدّد باتجاه الشرق في القوقاز وآسيا الوسطى، وهي منطقة حسّاسة جداً بالنسبة إلى عدد من القوى الإقليمية والدولية، من بينها إيران وروسيا والصين والولايات المتّحدة.

كما تمّت الإشارة في الإعلان الى التعاون والتنسيق في مسائل الدفاع وتقوية القدرات الدفاعية والأمنية والعسكرية والتدريب والتبادل العسكري، علاوة على التعاون الوثيق في إدارة الأسلحة والذخائر واستخدام التقنيات الحديثة والتعاون في مجال الصناعات الدفاعية.

وفي هذه النقطة بالتحديد يأمل الجانب التركي، على ما يبدو، الاستفادة من قدرات أذربيجان المالية لاستثمارها في مجال تطوير الصناعات الدفاعية المحليّة التي شهدت قفزة كبيرة في تركيا خلال السنوات القليلة الماضية، وتحتاج الى المزيد من الاستثمارات والأسواق الخارجية لتواصل نموّها على المدى الطويل.

في المقابل، ستستفيد أذربيجان من القدرات التركية في مجال التكنولوجيا والتسليح والتدريب وبناء قاعدة صناعيّة محلّية للأسلحة والذخائر من أجل تطوير قدراتها العسكرية ورفع الكفاءة القتالية لقواتها المسلحة وبناء جيش قوي وحديث، وربما يكون هناك فرصة أيضاً للإنتاج المشترك في مجال الصناعات الدفاعية والتعاون المشترك في مجال الأمن السيبراني.

ويركّز الإعلان على جهود البلدين لتحقيق التنويع الاقتصادي وإنشاء الآليات اللازمة لخدمة هذا الغرض، وضمان حرية التنقل وزيادة الصادرات التجارية وإنشاء آليات لإنتاج مشترك، وتطوير بيئة أكثر ملاءمة لتحقيق المنفعة الاقتصادية المتبادلة، وتطوير التعاون في مجال الاستثمار.

وكان من اللافت الإشارة إلى الدور الاستراتيجي لأذربيجان وتركيا في مجال الطاقة وأمن الطاقة، من خلال التأكيد على تنفيذ ممر الغاز الجنوبي الذي يساهم في تحقيق أمن الطاقة لأوروبا، ويخدم استراتيجية تنويع المسارات وتقليل الاعتماد على بعض المورّدين كروسيا. وقد نجحت أنقرة خلال السنوات القليلة الماضية في رفع اعتمادها على الغاز الأذربيجاني على حساب الغاز المستورد من روسيا وإيران، وهو ما أعطاها مساحة أكبر للمناورة سياسياً واقتصادياً.

ويشكّل موضوع الطاقة عنصراً مهمّاً في أجندة الدول الأوروبية والولايات المتّحدة على حد سواء. إذ تحاول أوروبا التخفيف من عبء الاعتماد على الغاز الروسي، فيما تسعى الولايات المتّحدة إلى زيادة تنافسيتها في هذا المجال من خلال الحد من واردات روسيا إلى أوروبا.

وينص إعلان شوشة على مساهمة الطرفين في تحسين القدرة التنافسية لممر النقل الدولي بين الشرق والغرب عبر أراضي البلدين. وفي الإعلان تفصيل لأوجه التعاون المستقبلية أيضاً في المجالات الإعلامية والثقافية والشبابية والشعبية، وفي مجال العلوم والصحة والتعليم وغيرها.

آخذين بالاعتبار كل ما سبق، فإن "إعلان شوشة" يعكس مرحلة الذروة التي وصل إليها البلدان في التعاون والتنسيق، ويُمهّد لحقبة جديدة من العلاقات الاستراتيجية قوامها التحالف الاستراتيجي وتعميق التعاون الطويل الأمد في مسائل تحتل أولوية لدى الطرفين كالدفاع والأمن والطاقة والمواصلات والتنمية وغيرها.

ويعتبر الإعلان أيضاً بمثابة اعتراف وامتنان من قبل باكو للدور الحاسم الذي لعبته أنقرة في دعم أذربيجان لتحرير أراضيها من الاحتلال الأرميني، في وقت فشل فيه كل أصدقاء باكو في الشرق والغرب في مساعدتها في هذا الملف خلال العقود الثلاثة الماضية.

وينطوي على هذا الاعتراف كذلك على رغبة أذربيجانية في مكافأة الحليف التركي على دوره التاريخي في حرب التحرير الأخيرة، علاوةً على الاستعانة بأنقرة للحفاظ على التوازنات الجيوبوليتيكية في جنوب القوقاز، خوفاً من أن يؤدي أي تغيير مستقبلاً إلى تحفيز الأرمن وحلفائهم الإقليميين أو الدوليين على الخوض في مغامرات جديدة.

وأعلنت أذربيجان قبيل فترة وجيزة إعطاء الأولوية في عملية إعادة الإعمار لشركات الإنشاءات والمقاولات التركيّة التي تحتل بدورها المرتبة الثانية عالمياً بعد الصين، ومنحت بعض الشركات التركية امتيازات العمل بمناجم في البلاد لمدة 30 عاماً.

ولا يقف إعلان شوشة عند حدود العلاقات الثنائية، إذ إنّه ينطوي على رسائل للقوى الإقليمية والدولية المعنيّة. فمن حيث التوقيت، هو يأتي بعد القمّة التي جمعت الرئيس التركي أردوغان بالرئيس الأمريكي بايدن على هامش قمّة الناتو، وفي خضم الحديث عن أهمّية إعادة تفعيل الناتو واحتواء النفوذ المتزايد لروسيا والصين.

وفي هذا المجال، تريد تركيا أن تقول إنّها اللاعب الأكثر كفاءة وقوّة ومصداقية وقدرة على الحد من نفوذ روسيا في المنطقة، بدليل دور أنقرة الحاسم في منع تفرّد موسكو في سوريا وليبيا وقره باغ. تركيا أيضاً بصفتها ثاني أكبر قوّة عسكرية في الحلف، قادرة على تفعيل دوره وإعطائه زخماً وبُعداً جيوبوليتيكياً جديداً في عمق آسيا الوسطى، لا سيما مع تفاعل ملف أفغانستان وقرب انسحاب قوات الناتو من هناك.

أمّا الرسائل الأخرى للإقليم، فواحدة للدول الناطقة بالتركية ومفادها أنّ تركيا جاهزة لتوسيع آفاق التفاهم والتعاون بما يخدم مصالح جميع الأطراف، وثانياً لهذه الدول وللإقليم بأنّ تركيا دولة ملتزمة بتحالفاتها وقادرة على الموازنة مع القوى الكبرى وعلى إحداث الفارق حينما يجد الجد، وهو ما خبره حلفاؤها في الاختبارات التي تمتّ في الخليج وشمال إفريقيا والشرق الأوسط والقوقاز والقرن الإفريقي وغيرها من المناطق خلال السنوات القليلة الماضية، وأن نموذج أذربيجان ليس استثنائياً في مجال التحالف مع أنقرة.

 

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس