ترك برس

أشار مقال تحليلي للبروفسور غيراي صاي نور ديرمان، إلى أن منطقة البحر الأسود التي تتميز بأهميتها لاسيما في حقول الاقتصاد والتجارة والنقل، استضافت عددًا لا يحصى من الحضارات على مر التاريخ، ما جعلها إحدى أبرز مناطق التنافس الرئيسية للقوى العالمية والإقليمية.

وقال الكاتب في مقاله بوكالة الأناضول إنه عند الحديث عن منطقة البحر الأسود في فترة ما بعد الحرب الباردة، لابد من التذكير بمفهوم "البحر الأسود الممتد" الذي ظهر، مع تأسيس منظمة التعاون الاقتصادي للبحر الأسود.

أما بعد الحرب الباردة، فقد تم إنشاء آليات مثل مجموعة عمل التعاون البحري للبحر الأسود، وحركة تنسيق التعاون في البحر الأسود، بالتوازي مع استمرار عمل الآليات الخاصة بمنظمات مثل الاتحاد الأوروبي، وحلف شمال الأطلسي (ناتو)، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وذلك من أجل ضمان الأمن في المنطقة.

وتابع المقال:

الولايات المتحدة، التي سعت للحفاظ على هيمنتها من خلال إعلان "النظام العالمي الجديد" بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ترى في "الأسود"، البحر الوحيد الذي لا تستطيع اختراقه رغم كونه "منطقة مصالح حيوية" بالنسبة لها.

لذلك، فإن الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة؛ تهدف إلى الدخول في المشاريع المتعلقة بالبحر الأسود لمنع المنافسين المحتملين من التحول إلى خصوم حقيقيين، وتشكيلهم تحالفات إقليمية ضد الهيمنة الأمريكية.

بدوره، يسعى الناتو في إطار مشروعه "بناء أوروبا الموحدة والحرة"، إلى دمج المنطقة مع النظام الغربي.

بدورهما، تتطلع الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة، إلى تحويل البحر الأسود لبحيرة تابعة للهيمنة الغربية، من خلال الجهود التي تبذل عبر الناتو، الذي يضطلع بمسؤولية رئيسية للحفاظ على الأمن في المنطقة الأوروبية الأطلسية.

إضافة إلى أن واشنطن ولندن تسعيان مع دول أخرى أعضاء في الناتو، إلى منع توسع النفوذ الروسي في المنطقة عبر دعم برامج المساعدات و"الثورات الملونة" ومشاريع "إنهاء النزاعات الإقليمية" و"أمن الطاقة".

- روسيا تعزز هيمنتها على البحر الأسود

من ناحية أخرى، تسعى روسيا لزيادة هيمنتها على حوض البحر الأسود كمجال حيوي يضمن استمرار مصالحها الاستراتيجية التي تتجلى في العديد من الملفات مثل خطوط نقل الطاقة وقواعد الأسطول العسكري ومجالات الأمن الإقليمي والتجارة.

وتهدف روسيا إلى كسب "المزيد من الهيمنة" بغرض فتح المجال للوصول إلى البحر المتوسط ​​عبر البحر الأسود والمضائق التركية.

هذه المساعي وأنشطة روسيا لزيادة وجودها وأنشطتها في مضيق كيرتش وبحر آزوف، أدت إلى تغيير ميزان القوة العسكرية والسياسية في حوض البحر الأسود وإعاقة نفوذ الناتو والغرب في المنطقة بطريقة ما.

تحاول موسكو، من خلال استراتيجيتها الإمبريالية التاريخية، ضمان السيطرة على حوض البحر المتوسط من خلال إظهار قوتها في المنطقة واستعادة هيمنتها التي كانت في العهد السوفييتي.

وفي إطار تلك المساعي، زادت روسيا من عدد أفراد أسطولها في البحر الأسود ليصل إلى 25 ألف عسكري، و21 سفينة حربية كبيرة، و7 غواصات، و200 سفينة دعم.

كما تم إرسال أكثر من 28 ألف جندي من القوات البحرية إلى المنطقة.

وبعد ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، عززت روسيا وجود أسطولها البحري في ميناء سيفاستوبول (القرم)، ونشرت أنظمة الدفاع الجوي (S-400)، وصواريخ (Kh-35U)، وطائرات (Su-24) و(Su-30SM).

كما استقدمت طائرات هليكوبتر طراز (Ka-27/29) إلى القرم. وهي من خلال تلك التعزيزات، تحاول منع امتداد تأثير الدول الغربية في هذه المناطق الحيوية، وزيادة سيطرتها على "محيطها القريب".

وفي إطار سياسة السيطرة على المحيط القريب التي تنتهجها موسكو، شهدت المنطقة اندلاع الحرب الروسية - الجورجية عام 2008، وأزمة روسيا - أوكرانيا - دونباس عام 2014، واحتلال شبه جزيرة القرم وضمها لاحقًا.

كما تمكنت روسيا من خلال منع جورجيا وأوكرانيا من الالتحاق بركب الناتو، الحيلولة دون امتداد هيمنة الناتو إلى منطقة البحر الأسود، ما أدى إلى اتساع هيمنتها في المنطقة لاسيما بعد عملية التحديث التي أجرتها على أسطولها البحري وقواتها البرية.

لقد غيرت هذه المنافسة الشرسة في المنطقة النظرة إلى مفهوم الأمن وجعلت التوازنات شديدة الحساسية، لاسيما مع استمرار موسكو انتهاج سياسات عدوانية وتوسعية.

خلال السنوات الأخيرة، شهدت العلاقات التركية الروسية إقامة تحالف قوي في المنطقة، خاصة في الأمور والقضايا التي تتعلق بالأمن في البحر الأسود، فيما أخذت الدول الغربية، على عاتقها مواجهة التمدد الروسي في حوض البحر الأسود، ما ينذر بحرب باردة جديدة بين القوى الغربية وموسكو.

- السفينة البريطانية "اختبرت رد فعل روسيا"

ونتيجة لتناقض الاستراتيجيات والمصالح الحيوية المذكورة أعلاه، تحول البحر الأسود خلال الأيام الأخيرة إلى مسرح لتوتر جديد بين القوى العالمية.

وفي بيان صادر عن وزارة الدفاع الروسية في 23 يونيو/ حزيران 2021، أعلنت أن البارجة الحربية البريطانية "إتش إم إس ديفيندر" انتهكت المياه الإقليمية الروسية جنوب غرب القرم، التي تعتبرها روسيا أراضٍ تابعة لها.

وأضاف البيان أن سلاح الجو الروسي أرسل مقاتلة "Su-24M" لتتبع السفينة البريطانية، فيما أطلقت سفينة روسية مكلفة بحماية الحدود نيراناً تحذيرية على السفينة البريطانية، وقد أعقب ذلك قيام المقاتلة الروسية بقصف مسار السفينة البريطانية كإجراء تحذيري.

من جهتهم، نفى مسؤولون بريطانيون الرواية الروسية.

وقالت وزارة الدفاع البريطانية في بيان إنه لم يتم إطلاق طلقات تحذيرية من الجانب الروسي باتجاه السفينة البريطانية "التي كانت تقوم بمرور غير ضار عبر المياه الإقليمية الأوكرانية وفقًا للقانون الدولي".

وصرح وزير الدفاع البريطاني "بن والاس" بأن بلاده لن تتردد في الدفاع عن القانون الدولي لأن الحادث وقع في مياه القرم، التي تعتبر تابعة لأوكرانيا وفقًا لقواعد القانون الدولي، ووصف المزاعم بأنها "تضليل روسي".

من ناحية أخرى طلبت وزارة الدفاع الروسية من لندن "السيطرة على تحركات طاقم السفينة"، معتبرة دخول السفينة البريطانية إلى المياه الإقليمية لشبه جزيرة القرم انتهاكٌ لاتفاقيات الأمم المتحدة، ملوحة بإمكانية قصف أي سفينة تنتهك المياه الإقليمية الروسية.

وقد رأت موسكو أن هذا الحادث الذي استغرق أكثر من عشرين دقيقة وانتهى بمغادرة السفينة البريطانية، كان بمثابة "اختبار لرد فعل روسيا" من قبل حلف شمال الأطلسي.

- مساع غربية لاختراق المنطقة

بعد تصاعد التوترات في منطقة البحر الأسود، تحولت الأنظار إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي اعتبر دخول السفينة الحربية البريطانية إلى المياه الإقليمية لشبه جزيرة القرم عملًا غير قانوني.

كما رأى بوتين أن "انتهاك" السفينة البريطانية "للمياه الإقليمية الروسية" كان الغرض منه مراقبة ردة فعل روسيا"، مشيرًا أن السفينة كانت في ذلك الوقت تعمل في البحر الأسود بالتنسيق مع الولايات المتحدة.

وقال: حتى لو أغرقنا هذه السفينة، فمن الصعب تصور أن العالم كان سيجد نفسه على حافة حرب عالمية ثالثة، ذلك أن القوى التي تقوم بفعل هذا، تدرك أيضًا أنها لن تخرج منتصرة من هكذا حرب.

وباختصار، تهدف المملكة المتحدة والولايات المتحدة إلى دمج منطقة البحر الأسود في النظام الرأسمالي الدولي من خلال "النظام العالمي الجديد" ومشروع "أوروبا الموحدة والحرة". ويلعب الناتو دورًا مهمًا في تكامل المنطقة مع النظام الغربي من خلال العضوية أو التعاون كما في حالة جورجيا وأوكرانيا.

من ناحية أخرى، يعمل الاتحاد الروسي على تطوير استراتيجية لمنع البحر الأسود من الابتعاد عن مجال نفوذه وسيطرته والتحول إلى بحيرة تابعة للناتو، بالتوازي مع السعي المحموم للنزول إلى المياه الدافئة.

لا تزال منطقة حوض البحر الأسود تشهد تنافسًا محتدمًا بين القوى الدولية، في الوقت الذي ينتظر فيه العالم منها تفعيل دور الوسائل الدبلوماسية لتجنب زيادة التوتر، وعدم تحويل "الأسود" إلى مصدر تهديد لأمن الإقليم والعالم.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!