د. وسام الكبيسي - خاص ترك برس

كل شيء كان على وشك الانهيار. ذاكرة الأتراك معبأة بالانقلابات وما تخلفه من دماء وتدمير وظلم ودكتاتورية وفساد، وتركيع لصوت الشعب تحت تهديد بندقية العسكر الموجهة إلى رأسه بمساعدة خارجية - غالبا - كما حصل في الانقلاب على عدنان مندريس عام 1961 ثم انقلاب 1980 تلاه الانقلاب الأبيض على أربكان عام 1997.
نعم كان كل شيء على وشك الانهيار لتعود عقارب الساعة بتركيا إلى ساعة الصفر والبيان رقم (1)، ولكن أقدار الله كانت تخبيء شيئا آخر.

من عاش تلك الليلة الاستثنائية في اسطنبول، وفي بعض أماكنها الحساسة على وجه الخصوص، يعرف حجم الرعب الذي حاول الانقلابيون بثه في تلك الليلة الاسطنبولية الصاخبة. كان صوت الطائرات المدوي يمتزج بأصوات العجائز اللاتي كنَّ يرفعن أصواتهن بالتكبير من شرفات منازلهن متناغما مع مآذن اسطنبول التي قضت ليلتها بين التكبير والابتهال إلى الله خوفا من عودة الكابوس ليجثم على صدر هذه المدينة الصاخبة مثل صخب البسفور الذي تتمدد على ضفافه.

أربعة أحداث فارقة كانت سببا للتوفيق الإلهي الذي عجل بانهيار الانقلاب. وكان خلف كل حدث من هذه الأحداث بطل حفر اسمه في ذاكرة تاريخ تركيا.

أول الأبطال هو شاب في مقتبل العمر وضابط صف صغير وطموح كما وصفه كل من عرفه، ذلكم هو الرقيب أول عمر خالص دمير، فقد كان لتضحيته أثر كبير في كسر خطة الانقلاب. وكانت هذه الخطة تقضي بأن تُشل أبرز معابر وجسور مدينتي اسطنبول وأنقرة مع السعي للسيطرة على أهم المراكز الحساسة فيهما. وكان مقر قيادة القوات الخاصة في أنقرة واحدا من أهم هذه المراكز إن لم يكن أهمها على الإطلاق.

كانت شجاعة منقطعة النظير من شاب بهذه الرتبة الصغيرة في سلسلة المراتب أن يرفض أمرا صادرا من جنرال من أشرس جنرالات الجيش التركي، خصوصا أن الأخير كان يلقي بالأوامر على عدد ممن كان يرافقه في مهمته من الضباط والمراتب، وكان هؤلاء المرافقون ينفذون أوامر الجنرال بلا نقاش. 

لقد أفشل هذا الشاب الجريء واحدة من أهم حلقات الانقلاب بعد أن انقض كالأسد غير مبال بالموت شبه المحتم، وراح يطلق النار على الجنرال سميح ترزي مما حال دون سيطرة قوات المتمردين على هذا المبنى عالي الرمزية، وقدم الشاب حياته ثمنا لئلا تسرق حرية وكرامة أو تكسر إرادة شعبه.

البطل الثاني في تلك الليلة كانت الفتاة العاملة في قناة سي إن إن تورك CNN Turk الإخبارية التي أظهرت هي الأخرى شجاعة منقطعة النظير ورباطة جأش في ظروف استثنائية، حيث تمكنت الإعلامية في هذه القناة هاندي فِرات من التواصل بجهود فردية مع الفريق الرئاسي المرافق للرئيس أردوغان وحققت لقاء قصيرا معه لم يتجاوز 12 ثانية كانت كفيلة باستعادة الثقة لدى الجماهير التي اندفع بعضها إلى الشوارع والميادين والمباني الرئيسية للدفاع عن حقها والحفاظ على مكتسباتها التي كانت مهددة بالتبدد فيما لو نجح الانقلاب، وكانت تنتظر بترقب لمعرفة ما حل برأس الدولة وقائدها، وهو ما تأخر بعض الشيء في تلك الليلة نتيجة لحالة الارتباك التي سادت القنوات الإعلامية في ظل عمليات محاصرتها أو اقتحامها من قبل عناصر وقادة الانقلاب.

استطاعت فرات عبر لقاء قصير وبطريقة استثنائية تدل على إبداع ورباطة جأش في تلك اللحظات العصيبة تحسد عليها،  أن تحصل على سبق إعلامي نادر لقناتها سبقت به بقية القنوات! فكان من ناتج هذه الشجاعة والمهنية العالية أن ظهرت - لأول مرة في نلك الليلة - صورة الرئيس وكلماته التي كان يترقبها الشعب، حيث جاءت من على شاشة الهاتف المحمول الصغير الذي كانت تحمله المذيعة، وعبر برنامج الفيس تايم Face time ليستعيد الشعب بعض قوته وثقته بنفسه.

البطل الثالث هم الشباب الذي انطلق بفطرته إلى أهم المفاصل التي كان يستهدفها الانقلابيون في سبيل إنجاح مهمتهم، وخصوصا الشباب الذين تجمعوا في أشد الأماكن خطرا في تلك الليلة. مثل؛ المربع الأمني في فاتح، والميدان الرئيسي في تقسيم، وبوابات مطار أتاتورك الدولي، والجسر المعلق الثاني على البسفور حيث كانت الخطة تقضي بقطع الجانب الآسيوي عن الجانب الأوروبي من اسطنبول لتسهيل السيطرة على المدينة الأهم بين المدن التركية من جهة، وإرسال رسالة قوية للشعب بأن الأمور قد حسمت وما على الجميع إلا التسليم والانصياع لأوامر حظر التجوال التي حملها البيان الأول والأخير للانقلابيين.

من عاين منظر الشباب وبسالتهم في تلك الليلة في مواجهة إطلاق النار والمدرعات التي كانت تدوس على أجساد الشباب وعرباتهم، سيعرف حجم الرعب الذي كانت تحمله في طياتها تلك اللحظات. كانت أصواتها العالية تكسر الهدوء النسبي لاسطنبول بعد منتصف الليل، ناهيك عن الأصوات المرعبة للطائرات التي كانت تحلق تلك الليلة بطريقة هستيرية، وسيعرف كذلك قوة قلوب تلك الثلة من الشباب المؤمنين بالدفاع عن حقهم بالحرية والكرامة، فما عاد أردوغان في نظر الشباب في تلك اللحظة هو الرئيس الذي يختلفون على أدائه بين مؤيد لموقف ورافض لآخر، بل بات رمزا لحرية وكرامة شعب مهددة بالاستلاب، ومكتسبات أمة مهددة بالانتزاع، والعودة بالأمة التركية إلى نقطة الصفر. وكان لنجاح هذه الثلة المؤمنة في الثبات بوجه الانقلاب أثرا كبيرا بلا شك في كسر إرادته.

البطل الرابع في تلك الليلة، وهو الأول من حيث التأثير، تمثل في ثبات وقوة قلب القائد الاستثنائي رجب طيب أردوغان، فقد أثبت في تلك اللحظات أنه قائد لا يتخلى عن شعبه في اللحظات العصيبة. ومع أن ذاكرته كانت مشبعة بما فعله الانقلابيون خلال محاولاتهم الناجحة السابقة من قتل وحبس وملاحقات هدفها رأس الدولة ورمزها الأول بالدرجة الأساس، ورغم التهديدات التي كانت تصله سرا وعلانية قبل ليلة الانقلاب، ورغم بعض رسائل الإغراء التي صدرت من بعض الدول وسربت إلى الرئيس ليهرب بطائرته برفقة الطاقم الذي كان معه في رحلة تلك الليلة من مرمريس إلى اسطنبول، والتي كان مفادها توفير مكان نفي آمن للرئيس ولرفاقه  ولعوائلهم من بعدهم خارج تركيا. إلا أن الرئيس التركي أصر على أن يخوض المنازلة مع شعبه غير عابيء بالنتائج الكارثية التي كانت تنتظره هو وجميع رافضي الانقلاب فيما لو كتب النجاح للانقلاب.

لنا أن نتخيل الأجواء تلك الليلة بينما كانت أسراب من طائرات الانقلابيبن تسيطر على أجواء اسطنبول الساهرة على أصواتها بينما كانت تخترق حاجز الصوت، وتطير بمستويات منخفضة جدا. وبينما تم إطفاء أنوار مطار أتاتورك الدولي بالكامل، لمنع طائرة الرئيس من الهبوط في تلك الليلة، كضمانة لنجاح الانقلاب واكتمال أركانه. وهذا ما اضطر قائد الطائرة الرئاسية للمناورة بالتنسيق مع والرئيس، والبقاء في الجو لأطول فترة زمنية ممكنة، على أمل البحث عن الفرصة السانحة للهبوط بالاعتماد على الأضواء الصادرة من الطائرة فقط وعلى حنكة قائدها، وهي طريقة هبوط تحمل في طياتها مخاطر كبيرة لو جرت في ظروف اعتيادية، فكيف والحال على ما باتت عليه اسطنبول في تلك الليلة؟

بعد تحليق مستمر ومناورات ومحاولات عدة استطاعت طائرة أردوغان أن تهبط في مطار أتاتورك وسرعان ما جرت اتصالات، ووصل الخبر إلى الشباب الذي بات يملأ الشارع الرئيسي الذي يوصل إلى المطار (E5) مما زادهم حماسة وإصرارا على الثبات في مواقفهم واقتحام المطار لاستقبال رئيسهم الشجاع. وخوفا من وجود مندسين بين جموع الشباب من الانقلابيبن الذين قد يفكرون باغتيال الرئيس لخلط الأوراق، فقد اقترح بعض المقربين من الرئيس أن يستخدم الدرع الواقي من الرصاص قبل الخروج لمقابلة الجماهير التي زاد احتشادها لاستقباله. ولكن أردوغان رفض هذا المقترح وخرج لهم بسترته العادية ولسان حاله يقول لهم أنا واحد منكم. مصيرنا واحد، ودمنا واحد، ومستقبلنا واحد، فإما أن نكسر الانقلاب معا أو نواجه الأعباء والتبعات معا فيما لو نجح الانقلاب لا قدر الله.

لقد كانت تلك هي اللحظة الحاسمة، لحظة التحام القائد بجماهيره وهي اللحظة الفارقة في كسر حلقات الانقلاب والفت من عضده بعدما شعر منفذوه بانفلات الأمور من أيديهم، وفشل الكثير من حلقات مخططهم.

وفي الحقيقة فمع التقدير لكل التضحيات التي قدمت في تلك الليلة، ومع الإقرار بأهمية كل بطل على حدة من أبطال إفشال الانقلاب، فإن بسالة وبطولة وحنكة القائد أردوغان وهدوءه العجيب في تلك الظروف الحالكة، كانت هي العنصر الأبرز في كسر إرادة الانقلاب، ولولا إصراره على التمسك بحق شعبه في الدفاع عن سبادته وكرامته مهما كانت التضحيات لما رأينا استسلام الانقلابيين مع أول أشعة الصباح، بعد ليلة استثنائية لم تنم فيها اسطنبول.

عن الكاتب

د. وسام الكبيسي

(كاتب وباحث عراقي)


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس