ترك برس

تبرز شواهد القبور العثمانية كلوحات فنية وتاريخية لكل منها حكاية وقصة معينة، تحكيها النقوش والرسوم التي عليها، والتي تعرّف المارين عليها بهوية الراقد في القبر.

وتشهد المقابر العثمانية، والتي تتواجد بكثرة في إسطنبول، إقبالاً كبيراً في يومنا الحالي، من قبل الزوار المحليين والأجانب، حيث يصفونها بأنها من أجمل الأماكن وأفضلها للتذوق الفني، فضلاً عن تواضعها الذي يتناسب مع أجواء المقبرة الباعثة على التفكر والتأمل.

وبحسب تقرير لـ "TRT عربي"، فإن الأحياء القديمة لمدينة إسطنبول، مثل الفاتح وأيوب وأسكودار وباي أوغلو، تحوي ما لا يقل عن ألف و600 مدفن وتربة وحضرة تاريخية، الأمر الذي دفع الكتاب والشعراء الغربيين الذي زاروا إسطنبول إلى وصف المقابر التركية التاريخية بأنها من أجمل الأماكن وأفضلها للتذوق الفني.

وتحتوي شواهد القبور، على أمثلة فريدة من فن نحت الحجارة والكتابة والفنون الأدبية. ففي عصر الدول العثمانية، أتقن الحرفيون صناعة شواهد القبور من الأحجار المتنوعة التي طُوّعت وشُكّلت وزُخرفَت، وأبدعوا في استخدام فن الخط العربي والعثماني بتشكيل لوحات فنية تعرض معلومات عن صاحب القبر ومهنته وجنسه والطبقة الاجتماعية التي كان ينتمي إليها.

وعندما نقترب من شواهد القبور في مدافن مثل السليمانية وقبر السلطان محمود الثاني، التي هي بمثابة متاحف مفتوحة أمام الزوار والسائحين، نرى لوحات رائعة من الفن الإسلامي، الذي سعى جاهداً لالتقاط الجمال والجماليات في كل ركن من أركان الحياة، وتمكن من تصويرها من خلال فنون الخط والنقش على الرخام الصلب، كما نرى بوضوح كيف تمكنت هذه الحجارة المزخرفة من شرح معظم خصائص وامتيازات الشخص المتوفى إبان حياته، بلا حاجة إلى قراءة النصوص المكتوبة على الشاهد، وذلك فقط من خلال أحجام الحجارة والأشكال والزخارف التي صُوّرَت بشكل فني على أسطحها.

ورغم أن الكتابات على شواهد القبور العثمانية في أغلبها كانت باللغة التركية العثمانية، فإن من الممكن أن نجد بعضاً من الكتابات العربية باستثناء الآيات والدعاء، ومن الأمثلة على ذلك، أبيات الشعر باللغة العربية التي كُتب على شاهد قبر بجوار مسجد السليمانية، والتي جاء فيها "الموت كأس وكل الناس شاربه، والكفن ثياب وكل الناس لابسه، والجنازات مراكب وكل الناس راكبه، والقبر باب كل الناس داخله".

رموز أساسية

تُعتبر أحجام شواهد القبور العثمانية، بالإضافة إلى الأشكال والزخارف النباتية والهندسية والتصويرية والعلامات والشعارات المنحوتة عليها، بمثابة سيرة ذاتية تدلّ على جنس الميت وعمره ومكانته العلمية والاجتماعية، فضلاً عن الرتبة والمنصب الذي كان يشغله في حياته، عسكرياً أو قضائياً أو علمياً أو فنياً... فمن خلال النقوش وحدها يمكن معرفة المهنة أو الوظيفة الحكومية للراحل، سواء إذا كان موظفاً بدرجة رفيعة أو كان جندياً. ويُذكر أن قبور الجلادين تُركت بلا نقوش وعبارات تشير إلى مهنتهم، حتى لا يُعرَفوا فيُلعَنوا.

فإذا كان على رأس الشاهد نحت عمامة فهذا يعني أن المتوفى رجل، أما إذا كان الشاهد رقيقاً وجميلاً ومزركشاً بالورود والحليّ والخمائر فإن ذلك يدل على أن الميت امرأة. واختلاف حجم وشكل العمامة يدل على اختلاف المكانة الاجتماعية والفكرية والدينية للمتوفى، كما أن لكل حرفة رمزاً مختلفاً، فالكاتب مثلاً يحتوي شاهده على لفائف ورقية وأقلام، ويحتوي شاهد قبر الرسام على أدوات رسم، أما البحار فيكون الشاهد على شكل صيغة الشراع وعارضة ومرساة ومقود السفينة، أما إذا كان القبر لفتاة توُفّيت قبل زواجها فإن شاهد قبرها الذي يكون على شكل النقاب يُنقش علية نقش لزهرة مكسورة.

المحاضرة في قسم تاريخ الفن بجامعة غازي عثمان باشا، جانان هان أوغلو، قالت إن "الوجود المتكرر لأشكال الزهور والفواكه على شواهد القبور ينبع من الرغبة في جعل أماكن الراحة الأبدية تبدو مثل حدائق الجنة"، وأضافت: "أحد الأشكال الأكثر استخداماً هو رسومات الورد، التي تُعتبر رمزاً لله ووحدته والنبي محمد أيضاً". وأشارت هان أغلو إلى أن الوردة على شاهد القبر إن لم تكن متفتحة، فهذا يعني أن صاحب شاهد القبر قد مات في سن مبكرة، وأوضحت أنه يمكن أن نفهم أن الشخص كان في بداية حياته المهنية عندما وافته المنية من خلال زخارف الورود الموضوعة بين لفائف عمامته.

ولفتت هان أوغلو إلى أن أنواع الزهور مثل الزنبق (لاله بالتركية) الذي يبشر بقدوم الربيع، له أيضاً مكانة مهمة على شواهد القبور، فعندما تُقرأ كلمة "لاله" من الجهة العكسية، تصبح "هلال"، وهو الرمز والشعار الذي يمثل الدولة العثمانية. كما يستخدم القرنفل الذي يرمز إلى الحزن بكثرة على شواهد القبور العثمانية القديمة.

العمائم ودلالاتها

للعمائم والطرابيش أربعة أشكال رئيسية على رؤوس شواهد القبور العثمانية، تتنوع حسب حجمها وشكلها، فالعمامة الكبيرة المضلعة ترمز إلى كبار شخصيات القصر وكبار العلماء من أمثال شيخ الإسلام وقاضي القضاة، أما العمائم المتوسطة فللعلماء والقضاة والأئمة، فيما يترأس شواهد قبور شيوخ ومنتسبي الطرق الصوفية عمائم بأحجام وأشكال مختلفة كلٌّ حسب مرتبته وطريقته.

وكما أن لكل عمامة دلالة على مكانة ومهنة صاحبها والطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها، فإن للقبعات والطرابيش أيضاً دلالاتها الخاصة، فيُنحت على رأس شواهد قبور الصدر الأعظم وقائد الأسطول وكبار الوزراء قبعات مرتفعة ذات شكل مخروطي، فيما تعلو خوذة شواهد قبور جنود الإنكشارية، فيما نجد شواهد قبور يعلوها طرابيش من فترات زمنية مختلفة.

وفيما يلي شرح لأبرز أشكال شواهد القبور

1- نُحت على شاهد قبر المرأة العثمانية صورة لوردة مكسورة في إشارة إلى أنها توُفّيَت في سن مبكرة.

2- يعلو شاهدَ القبر عمامةٌ مبرومة تدلّ على المكانة الرفيعة التي كان يحظى بها صاحب القبر، ونُحت على العمامة التي درج استخدامها في القرن السادس عشر وردة، للدلالة على أن صاحب القبر توُفّي في سن صغيرة.

3- شاهد قبر تعلوه عمامة كبيرة مضلعة ترمز إلى أن صاحب القبر كان أحد كبار شخصيات القصر مثل الصدر الأعظم أو أحد كبار العلماء من أمثال شيخ الإسلام وقاضي القضاة.

4- شواهد قبور مختلفة نُحت عليها أشرعة سفن بالإضافة إلى حبال ومراسٍ وعوارض، في إشارة إلى أن أصحاب هذه القبور كانوا يشغلون مناصب القادة في الأسطول العثماني.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!